باب من أهدى إلى صاحبه وتحرى بعض نسائه دون بعض
بطاقات دعوية
عن عائشة رضي الله عنها أن نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كن حزبين، فحزب فيه عائشة وحفصة وصفية وسودة، والحزب الآخر أم سلمة وسائر نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان المسلمون قد علموا حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عائشة، فإذا كانت عند أحدهم هدية يريد أن يهديها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخرها، حتى إذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيت عائشة، بعث صاحب الهدية إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيت عائشة (وفي رواية عنها: كان الناس يتحرون بهداياهم يومي)، [يبتغون بها- أو يبتغون بذلك- مرضاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - 3/ 131]، فكلم حزب أم سلمة، فقلن لها:
[يا أم سلمة! والله إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، وإنا نريد الخير كما تريده عائشة، ف 4/ 221]، كلمي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكلم الناس، فيقول: من أراد أن يهدي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هدية فليهده حيث كان من نسائه، فكلمته أم سلمة بما قلن، فلم يقل لها شيئا (وفي رواية: فأعرض عنها)، فسألنها؟ فقالت: ما قال لي شيئا، فقلن لها: فكلميه، قالت: فكلمته حين دار إليها أيضا، فلم يقل لها شيئا، (وفي رواية: قالت: فأعرض عني)، فسألنها؟ فقالت: ما قال لي شيئا، فقلن لها: كلميه حتى يكلمك، فدار إليها فكلمته، (قالت: فأعرض عني، فلما كان في الثالثة ذكرت له)، فقال لها:
" [يا أم سلمة!]، لا تؤذيني في عائشة، فإن الوحي لم يأتني وأنا في ثوب امرأة إلا عائشة (وفي رواية: فإنه والله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها) ". قالت: فقلت: أتوب إلى الله من أذاك يا رسول الله! ثم إنهن دعون فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، (396 - وفي رواية معلقة: فاستأذنت فاطمة) تقول: إن نساءك ينشدنك الله العدل في بنت أبي بكر، فكلمته، فقال:
"يا بنية! ألا تحبين ما أحب؟ ". قالت: بلى، فرجعت إليهن، فأخبرتهن، فقلن ارجعي إليه، فأبت أن ترجع، فأرسلن زينب بنت جحش، فأتته، فأغلظت، وقالت: إن نساءك ينشدنك الله العدل في بنت ابن أبي قحافة، فرفعت صوتها، حتى تناولت عائشة، وهي قاعدة، فسبتها، حتى إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لينظر إلى عائشة هل تكلم؟ قال: فتكلمت عائشة ترد على زينب، حتى أسكتتها، قالت: فنظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى عائشة، وقال "إنها بنت أبي بكر"
كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم نِعمَ المربِّي والمُعلِّمُ، وكانَ خَيرَ النَّاسِ لأهلِه، وأحسَنَهم عِشرةً لأزواجِه، وكان زَوجًا لكثيرٍ مِن النِّساءِ، وكان يقَعُ بيْنهنَّ ما يقَعُ بيْن الضَّرائرِ مِن الغَيرةِ، فكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم يَعدِلُ بيْنهنَّ ولا يَسمَحُ لواحدةٍ أنْ تَتَعدَّى على صاحبتِها.
وفي هذا الحديثِ تَحْكي أمُّ المؤمنينَ عائشةُ رَضيَ اللهُ عنها أنَّ نِساءَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كُنَّ حِزبَيْنِ، أي: طائِفتَيْنِ، فَحِزْبٌ فيه أمَّهاتُ المؤمنينَ: عائِشةُ بنتُ أبي بَكرٍ، وحَفْصةُ بنتُ عمَرَ، وصَفيَّةُ بنتُ حُيَيٍّ، وسَوْدةُ بنتُ زَمْعةَ. والحِزْبُ الآخَرُ فيه: أمُّ المؤمنينَ أُمُّ سَلَمةَ بنتُ أبي أُميَّةَ وسائِرُ نِساءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: زَينَبُ بنتُ جَحْشٍ، ومَيْمونةُ بنتُ الحارثِ، وأُمُّ حَبيبةَ بنتُ أبي سُفْيانَ، وجُوَيْريَةُ بنتُ الحارثِ رَضيَ اللهُ عنْهنَّ، وكانَ المُسلِمونَ قَدْ عَلِموا حُبَّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِعائشةَ رَضيَ اللهُ عنها، فَإذا كانت عِندَ أحَدِهم هَديَّةٌ يُريدُ أنْ يُهْديَها إليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أخَّرَها، حَتَّى إذا كانَ في بَيتِ عائشةَ رَضيَ اللهُ عنها يومَ نَوبتِها بَعَثَ بها إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هناك.
فَطَلَبَ حِزْبُ أُمِّ سَلَمةَ رَضيَ اللهُ عنها منها أنْ تُكَلِّمَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ ليُكَلِّمَ النَّاسَ بأنَّ مَن أرادَ أنْ يُهْديَ إليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هَديَّةً، فَلْيُهْدِه حيثُ كانَ مِن بُيوتِ نِسائِه، ولا يَتحيَّنْ يومَ عائشةَ بالتَّحديدِ، فَكَلَّمَتْه أُمُّ سَلَمةَ رَضيَ اللهُ عنها بِما قُلْنَ لها في يَومِ نَوبتِها، فلَم يَقُلْ لها صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ شَيئًا، ولم يُجِبْها لطَلَبِها؛ فَأخبَرَتْ أمُّ سَلَمةَ حِزْبَها بذلكَ، فَطَلَبنَ منها أنْ تُكلِّمَه يَومَ نَوْبتِها مرَّةً ثانيةً، فكلَّمَتْه، فلَم يَقُل لها صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ شَيئًا، فَأخْبَرَتْهنَّ بذلكَ. فَطَلَبْنَ منها أنْ تُكلِّمَه للمرَّةِ الثَّالثةِ في يومِ نَوبتِها، حتَّى يَرُدَّ عليها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ويَقولَ لها شيئًا، فكَلَّمَتْه، فَقالَ لها صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «لا تُؤْذيني في عائشةَ؛ فإنَّ الوَحْيَ لَم يَأْتِني وأنا في ثَوْبِ امْرَأةٍ إلَّا عائِشةَ». والمقصود بالثوب اللحاف، وهو الغطاء أو السترة، والمعنى: أن أم المؤمنين عائشة رَضيَ اللهُ عنها هي الوحيدة من زوجات النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ التي نزل الوحي على النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حالَ كونِه نائمًا بجانبها في فراشها. قالت أُمُّ سَلَمةَ رَضيَ اللهُ عنها: «أَتوبُ إلى اللهِ مِن أَذاكَ يا رَسولَ الله».
ثمَّ طَلَبَ حِزْبُ أُمِّ سَلَمَةَ مِن فاطِمةَ رَضيَ اللهُ عنها بِنْتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَأرْسَلَتْ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تَقولُ: إنَّ نِساءَك يَنْشُدْنَك اللهَ -أي: يَسْأَلْنَك باللهِ- العَدْلَ في بِنتِ أبي بَكْرٍ، أي: التَّسْويةَ بيْنهنَّ في كُلِّ شَيءٍ مِن المَحَبَّةِ وغَيرِها. وقيل: بلِ المقصودُ التَّسويةُ في مَحبَّةِ القلْبِ فقطْ؛ لأنَّه كان يُساوي بيْنهن في الأفعالِ المقدورةِ، وقدِ اتُّفِقَ على أنَّه لا يَلزَمُه التَّسويةُ في المحبَّةِ؛ لأنَّها لَيست مِن مَقدورِ البشَرِ. وأمَّا ما يَتعلَّقُ بالهَدايا فالَّذي يَظهَرُ أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان يُشرِكُهنَّ فيما يَصِلُه مِن هَدايا وهو في بَيتِ أمِّ المؤمنينَ عائشةَ، وإنَّما وَقَعَت المنافَسةُ لكونِ العطيَّةِ تَصِلُ إليهنَّ مِن بَيتِ عائشةَ رَضيَ اللهُ عنها، ولا يَلزَمُ في ذلك التَّسويةُ.
فَقالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «يا بُنَيَّة، ألَّا تُحِبِّينَ ما أُحِبُّ، قالت: بَلى»، وزاد في صَحيحِ مُسلمٍ: «قالَ لها: فَأحِبِّي هذه»، أي: عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها، فَرَجَعَتْ فاطِمةُ رَضيَ اللهُ عنها إليهِنَّ فَأخبَرَتْهُنَّ بالَّذي قالَه، فَقُلْنَ: ارْجِعي إليه، فَأبَتْ أنْ تَرجِعَ إليه.
فَأرسَلنَ زَينَبَ بِنْتَ جَحْشٍ رَضيَ اللهُ عنها، فَأتَتْه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَأغْلَظَتْ في كَلامِها، وقالت: إنَّ نِساءَك يَنْشُدْنَك اللهَ العَدْلَ في بِنْتِ ابنِ أبي قُحافةَ، وهو والدُ أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ، واسمُه عُثمانُ بنُ عامرٍ رَضيَ اللهُ عنهما، فَرَفَعَتْ زَينَبُ رَضيَ اللهُ عنها صَوتَها حَتَّى تَناوَلَتْ مِن عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها -أي: تَعرَّضَت لها- وهيَ قاعِدةٌ، فسَبَّتْها، حَتَّى إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ليَنْظُرُ إلى عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها: هَلْ تَتَكَلَّمُ وتَرُدُّ عليها؟ فتَكَلَّمَت عائِشةُ رَضيَ اللهُ عنها تَرُدُّ عَلى زَينَبَ رَضيَ اللهُ عنها حَتَّى أسْكَتَتْها، قالتْ: فنَظَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى عائشةَ رَضيَ اللهُ عنها وقالَ: إنَّها بِنْتُ أبي بَكْر، أي: إِنَّها شَريفةٌ عاقِلةٌ عارِفةٌ كَأبيها.
وفي الحَديثِ: فَضيلةٌ عَظيمةٌ لِعائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها.
وفيه: ما كانَ عليه أزْواجُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن مَهابتِه والحَياءِ مِنه حَتَّى راسَلْنَه بِأعَزِّ النَّاسِ عِندَه فاطِمةَ رَضيَ اللهُ عنها.
وفيه: أنَّ الغَيْرةَ مِن الأمورِ الَّتي جُبِلَتْ عليها المرأةُ، ولا تُلامُ عليها إلَّا إذا أَنزلَتِ الغَيرةَ في غيرِ مَنزلتِها، ويُكرَهُ منها ذلك، وعلى الزَّوجِ التَّعامُلُ معها بلُطْفٍ في هذا السِّياقِ.