باب من رأى ترك النكير من النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة، لا من غير الرسول
بطاقات دعوية
عن محمد بن المنكدر قال:
رأيت جابر بن عبد الله يحلف بالله: إن ابن الصائد الدجال. قلت: تحلف بالله؟ قال:
إني سمعت عمر يحلف على دلك عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم ينكره النبي - صلى الله عليه وسلم -.
كانَ في عَهدِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأصحابِه رجُلٌ يُدْعَى ابنَ صيَّادٍ، ظُنَّ فيه أنَّه الدَّجَّالُ الَّذي يَخرُجُ آخِرَ الزَّمانِ؛ لصِفاتٍ تَشترِكُ بينهما.
وفي هذا الحَديثِ يَروي مُحمَّدُ بنُ المُنكدِرِ -وهو تابعيٌّ كَبيرٌ- أنَّه رأى الصَّحابيَّ الجَليلَ جابرَ بنَ عبدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنهما يَحلِفُ باللهِ أنَّ ابنَ صَيَّادٍ هو المَسيحُ الدَّجَّالُ، وابنُ صَيَّادٍ يُقالُ له: ابنُ الصَّائدِ، وابنُ صائدٍ، واسمُه صَافٍ، وقيلَ: عبدُ اللهِ، وهو من بَني النَّجَّارِ، وقيلَ: منَ اليَهودِ، وكانوا حُلفاءَ بَني النَّجَّارِ، فقالَ مُحمَّدُ بنُ المُنكدِرِ لجابرٍ رَضيَ اللهُ عنه مُتعجِّبًا ومُستفسِرًا: كيفَ تَحلِفُ باللهِ أنَّ ابنَ صَيَّادٍ هو الدَّجَّالُ، مع أنَّه أمرٌ ظنِّيٌّ غيرُ مَجزومٍ به؟! فأخبَرَه جابرٌ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه سَمِعَ عُمَرَ بنَ الخطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه يَحلِفُ على أنَّ ابنَ صَيَّادٍ هو الدَّجَّالُ عندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فلم يُنكِره النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أي: لو لم يكن مَقطوعًا لأنكَرَه، ولو لم يُجِزِ اليمينَ على ما يَغلِبُ به الظَّنُّ لَمَا سَكَتَ عنه، وكانَ سَمِعَ منَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وفَهِمَ منه العَلَاماتِ والقرائنَ الدَّالَّةَ على الدَّجَّالين، ويَحتمِلُ أنَّ عُمرَ رَضيَ اللهُ عنه أراد بذلك أنَّ ابنَ صَيَّادٍ مِنَ الدَّجَّالينَ الذين يَخرُجونَ، فيَدَّعونَ النُّبوَّةَ، أو يُضِلُّونَ النَّاسَ، ويُلبِّسونَ الأمرَ عليهم، لا أنَّه المَسيحُ الدَّجَّالُ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تَردَّدَ في أمرِه، حيثُ قالَ لعُمَرَ: «إنْ يَكُنْهُ فلنْ تُسلَّطَ عليه، وإنْ لم يَكُنْهُ فلا خيرَ لك في قتلِه»، كما في روايةٍ أُخرى في الصَّحيحَينِ، ويَحتمِلُ أنَّ قولَه: «فلمْ يُنكِرْه»؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَرَفَ أنَّه من جُملةِ مَن حَذَّرَ النَّاسَ عنه منَ الدَّجَّالينَ؛ ففي الصَّحيحَينِ عن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قالَ: «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى يُبعَثَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ، قَرِيبًا من ثَلاثِينَ، كُلُّهم يَزعُمُ أنَّه رَسولُ اللَّهِ»، وابنُ صَيَّادٍ لم يكُن خارجًا من جُملتِهم؛ لأنَّه ادَّعى النُّبوَّةَ بمَحضَرٍ منَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فلم يَكُن حَلِفُ عُمرَ رَضيَ اللهُ عنه مُخالِفًا للحقيقةِ، أو يُريدُ أنَّ فيه صِفةَ الدَّجَّالِ، وقالَ بعضُ أهلِ العلمِ بأنَّ قِصَّةَ ابنِ صَيَّادٍ مُشكِلةٌ، وأمرَه مُشتبِهٌ، لكن لا شَكَّ أنَّه دجَّالٌ منَ الدَّجاجِلةِ، والظَّاهرُ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لم يُوحَ إليه في أمرِه بشَيءٍ؛ وإنَّما أُوحيَ إليه بصِفاتِ الدَّجَّالِ، وكانَ في ابنِ صَيَّادٍ قَرائنُ مُحتمِلةٌ؛ فلذلك كانَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لا يَقطَعُ في أمرِه بشَيءٍ.
وقيلَ: ليسَ في الحديثِ أكثَرُ من سُكوتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على حَلِفِ عُمَرَ، فيَحتمِلُ أن يَكونَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانَ مُتوقِّفًا في أمرِه، ثُمَّ جاءَه التَّثبُّتُ منَ اللهِ بأنَّ الدَّجَّالَ الأكبَرَ غيرُ ابنِ الصَّائدِ، على ما تَقتضيه قِصَّةُ تَميمٍ الدَّاريِّ التي روَاها مُسلِمٌ.