باب من فضائل أبي موسى وأبي عامر الأشعريين رضي الله عنهما
بطاقات دعوية
حديث أبي موسى رضي الله عنه، قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، وهو نازل بالجعرانة، بين مكة والمدينة، ومعه بلال فأتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي، فقال: ألا تنجز لي ما وعدتني فقال له: أبشر فقال: قد أكثرت علي من (أبشر) فأقبل علي أبي موسى وبلال، كهيئة الغضبان، فقال: رد البشرى، فاقبلا أنتما قالا: قبلنا ثم دعا بقدح، فيه ماء، فغسل يديه ووجهه فيه، ومج فيه، ثم قال: اشربا منه، وأفرغا على وجوهكما ونحوركما، وأبشرا فأخذا القدح، ففعلا فنادت أم سلمة، من وراء الستر: أن أفضلا لأمكما فأفضلا لها منه طائفة
كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الناس ويربيهم بالقول والفعل، فكان يصبر على جهل الجاهل وجفائه، ويعلمه بالحكمة، وكان كبار الصحابة يعرفون للنبي صلى الله عليه وسلم قدره ومقامه، ويتسابقون إلى طاعته، وقبول بشرياته
وفي هذا الحديث يخبر أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أنه كان عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو مقيم في سفره «بالجعرانة بين مكة والمدينة»، كذا جاء في الحديث أن الجعرانة بين مكة والمدينة، ولكن قال العلماء: بأن هذا وهم، والصواب أن الجعرانة بين مكة والطائف، وهي إلى مكة أقرب، وكانت قرية صغيرة قريبة من المسجد الحرام، على بعد 20 كم شمال شرق مكة المكرمة، اكتسبت شهرة تاريخية بنزول الرسول صلى الله عليه وسلم فيها، وتوزيع الغنائم بها بعد عودته من غزوة حنين، وكان معه بلال بن رباح رضي الله عنه
ويحكي أبو موسى رضي الله عنه أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي، والأعراب: البدو وسكان الصحراء، ويغلب عليهم الجفاء والغلظة وقلة الفقه، فقال: «ألا تنجز ما وعدتني» فتعطيني إياه ولا تؤخره، ولعل ذلك كان وعدا خاصا به، أو كان طلبه أن يعجل له نصيبه من الغنيمة؛ فإنه صلى الله عليه وسلم كان أمر أن تجمع غنائم حنين بالجعرانة، وتوجه هو بالعساكر إلى الطائف، فلما رجع منها، قسم الغنائم حينئذ بالجعرانة؛ فلهذا وقع في كثير ممن كان حديث عهد بالإسلام استبطاء الغنيمة، وكان السبب في تأخير القسمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرجو أن يسلم أهل السبي، وكانوا ستة آلاف نفس من النساء والأطفال أو أكثر، كما جاء في حديث المسور عند البخاري. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أبشر»، أي: كن مستبشرا بقرب القسمة، أو بالثواب الجزيل على الصبر. فرد الأعرابي على النبي صلى الله عليه وسلم قائلا: «قد أكثرت علي من (أبشر)»، وهذا من جفاء الأعرابي، وغلظته، وعدم مراعاته لمقام النبي صلى الله عليه وسلم كما ينبغي. فتوجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي موسى وبلال رضي الله عنهما على هيئة يظهر منها أنه غضبان من رد الأعرابي، وقال لهما: رد الأعرابي ورفض البشرى، فاقبلاها أنتما وخذاها لكما، فقبلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراه. وهذا من باب تعليم الأعرابي كيف تقبل البشرى دون معرفة الأمر المبشر به، ثم طلب النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤتى له بإناء ووعاء فيه ماء، فغسل يديه ووجهه فيه، وطرح ما في فمه من الماء في الإناء، ثم قال صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري، وبلال رضي الله عنهما: «اشربا منه، وأفرغا»، أي: وصبا «على وجوهكما ونحوركما» مثنى نحر، وهو العنق والرقبة، «وأبشرا». فأخذا الإناء ففعلا ونفذا ما أمرهما به النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهذا لأنهما يعلمان بركة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يتقذران من فعله هذا، ولا من أن يشربا من الماء الذي غسل فيه يديه ووجهه، وطرح فيه ما في فمه من الماء، ولعل هذا من التعليم للأعرابي ومن شابهه؛ لكي يعرف قدر النبي صلى الله عليه وسلم، ويقبل منه ما يأمره به. فنادت أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها أبا موسى الأشعري وبلالا رضي الله عنهما من وراء الستر، أي: من خلف الحجاب الساتر لها عن الناس، فقالت: «أن أفضلا لأمكما»؛ وذلك لأنها أم المؤمنين، والمعنى: أبقيا لي من الماء، ولا تشرباه كله؛ لتنال من بركة النبي صلى الله عليه وسلم، فأبقيا لها بعض الماء
وفي الحديث: مشروعية غسل اليدين والوجه في الإناء
وفيه: بيان ما كان عليه بعض الأعراب من الجفاء والغلظة حتى مع النبي صلى الله عليه وسلم
وفيه: منقبة وفضيلة لبعض الصحابة، وهم أبو موسى الأشعري، وبلال بن رباح، وأم سلمة رضي الله عنهم جميعا
وفيه: مشروعية قول الرجل لأخيه: «أبشر» إذا طلب منه شيئا