باب: منع القاتل السلب بالاجتهاد
بطاقات دعوية
عن عوف بن مالك - رضي الله عنه - قال قتل رجل من حمير رجلا من العدو فأراد سلبه فمنعه خالد بن الوليد - رضي الله عنه - وكان واليا عليهم فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عوف بن مالك فأخبره فقال لخالد ما منعك أن تعطيه سلبه قال استكثرته يا رسول الله قال ادفعه إليه فمر خالد بعوف فجر بردائه (7) ثم قال هل أنجزت لك ما ذكرت لك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (8) فسمعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستغضب فقال لا تعطه يا خالد لا تعطه يا خالد هل أنتم تاركون (1) لي أمرائي إنما مثلكم ومثلهم كمثل رجل استرعي إبلا أو غنما فرعاها ثم تحين سقيها فأوردها حوضا فشرعت فيه فشربت صفوه وتركت كدره فصفوه لكم وكدره عليهم. (م 5/ 149
كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُرسِلُ الأمراءَ في الغزواتِ، ويَأمُرُهم بطاعةِ اللهِ ورَسولِه، وبالتَّقوى في كلِّ أعمالِهم، وكان يَأمُرُ الجنودَ بطاعةِ الأُمراءِ حتَّى تَسقِيمَ أُمورُ الحربِ.
وفي هذا الحديثِ يَرْوي عَوْفُ بنُ مَالِكٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رَجُلًا مِن المسْلِمين مِن قَبيلةِ حِمْيَرَ -وأصلُها في اليمنِ- قَتَل رَجُلًا مِن الكفَّارِ، وهذه القضيَّةُ جَرَت في غَزوةِ مَؤتةَ سَنةَ ثمانٍ، كما في رِوايةٍ أُخرى لمسْلمٍ، فأراد القاتلُ أنْ يَأخُذَ سَلَبَ المقتولِ، وهو ما كان عليه مِنَ الثِّيابِ والسِّلاحِ، سُمِّيَ به لأنَّه يُسلَبُ عنه، فمَنَعه خَالِدُ بنُ الوَلِيدِ، وكان أميرًا وقائدًا عليهم، وذلك بعدَ أنْ قُتِل أُمَراءُ الغزوةِ الثَّلاثةُ: زَيْدُ بنُ حَارِثَةَ وجَعْفَرُ بنُ أبي طَالِبٍ وعبدُ الله بنُ رَوَاحَةَ رَضيَ اللهُ عنهم.
وفي رِوايةِ أبي داودَ: أنَّ عَوفًا رَضيَ اللهُ عنه راجَعَ خالدًا في مَنعِه السَّلبَ، وقال: «يا خالدُ، أمَا عَلِمتَ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قَضى بالسَّلَبِ للقاتلِ؟ قال: بَلى، ولكنِّي استَكْثَرْتُه. قُلتُ: لَتَرُدَّنَه عليه أو لَأُعَرِّفَنَّكَها عندَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأبى أنْ يَرُدَّ عليه». فأتَى عَوْفُ بنُ مَالِكٍ رَضيَ اللهُ عنه رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فأخبَرَه بما كان مِن خالِدٍ رَضيَ اللهُ عنه، فسَأَل صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خالدًا: ما مَنَعَك أن تُعْطِيَه سَلَبَهُ؟ فأجاب: اسْتَكْثَرْتُه يا رسولَ الله، أي: وَجَده كثيرًا على هذا الرَّجلِ، فأمَرَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُعطِيَ السَّلَبَ إلى صاحبِه الَّذي هو أحقُّ به، فمَرَّ خَالِدٌ بِعَوْفٍ، فجَرَّ بِرِدائِه، أي: جَذَبَ عَوْفٌ رداءَ خَالِدٍ، ثُمَّ قال عوف له: «هل أَنْجَزْتُ لك؟» أي: هل أَوْفَيْتُ لك ما ذَكَرْتُ لك مِن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ أي: مِن شَكْوَاهُ إيَّاهُ لِلنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولعلَّه قال ذلك استهزاءً بخالدٍ، وهو أميرٌ مِن أُمراءِ الحربِ، وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُعظِّمُ أُمراءَ الحربِ والجيوشِ، كما في الصَّحيحينِ: «مَن أطاعَني فقدْ أطاع اللهَ، ومَن عَصاني فقدْ عَصى اللهَ، ومَن أطاع أمِيري فقدْ أطاعني، ومَن عَصى أمِيري فقدْ عَصاني»، فسَمِعه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فغَضِبَ، وقال: لا تُعْطِهِ يا خَالِدُ، لا تُعْطِهِ يا خَالِدُ، مرَّتينِ لتأكيدِ النَّهيِ، يُريدُ: لا تُعطِ السَّلَبَ للقاتلِ، تَعريضًا منه بفِعلِ عَوفٍ مع خالدٍ، ويَحتمِلُ أنَّ القاتلَ قدْ أساء أيضًا مع عَوفٍ لخالدٍ، ثمَّ قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لمَن عِنده: «هل أنتُم تارِكون لي أُمَرَائِي؟!» الَّذين أمَّرْتُهم عليكم مِن الطَّعنِ فيهم وإساءةِ الأدبِ معهم، وهلْ تَسمَعون لهم وتُطيعُون ولا تُخالِفُونهم وتُعانِدونَهم؟ «إنَّما مَثَلُكم ومَثَلُهم» أي: صِفةُ الأمراءِ وصِفتُكم أنتم أيُّها الجيشُ، «كَمَثَلِ رَجُلٍ استُرعِيَ إبِلًا أو غَنَمًا» أي: جُعِلَ رَاعِيًا لها، فرَعَاها، ثُمَّ تَحيَّنَ سَقْيَها، أي: طَلَب وأَدْرَكَ وقتَ سَقْيِها، فأتى بها إلى حَوْضٍ، «فشَرَعَتْ فيه» أي: دخَلَت في ذلك الحَوضِ، فشَرِبَت الخالِصَ الصافِيَ منه، وتَرَكَت الماءَ الَّذي اختَلَط بالتُّرابِ ونحوِه، «فصَفْوُه لكم، وكَدَرُه عليهم»، أي: إنَّ الرَّعِيَّةَ يَأخُذون صَفْوَ الأموالِ مِنَ الغَنِيمَةِ وغيرِها، وتُبتَلَى الوُلاةُ بِمُقاساةِ الشِّدَّةِ في جمعِ الأموالِ مِن وُجوهِها وصَرْفِها في وُجوهِها، مع الشَّفَقَةِ على الرَّعِيَّةِ، وإنصافِ بعضِهم مِن بعضٍ، وحَمْلُ هَمِّ ما جَمَعوا وعِبْئِه ومشَقَّتِه وما وَقَعوا فيه مِن خطَأٍ.
قيل: قدِ استُشكِلَ هنا أمرُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالسَّلَبِ للقاتلِ، ثمَّ نَهْيُه عنه، وأُجِيبَ: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أخَّرَه تَعزيرًا لهما، ثمَّ أعطاهُ بعْدَ ذلك، ويَحتمِلُ: أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ استطابَ قلْبَ صاحبِ السَّلَبِ، فتَرَكَه صاحبُه باختيارِه، وجَعَلَه للمسْلِمين، وكان المقصودُ بذلك استطابةَ قَلبِ خالدٍ رَضيَ اللهُ عنه؛ للمصلحةِ في إكرامِ الأُمراءِ.
وفي الحديثِ: أنَّ السَّلَبَ حقُّ القاتِل.
وفيه: فضلُ خَالِدِ بنِ الوَلِيدِ رَضيَ اللهُ عنه.
وفيه: أنَّ مِن هَدْيِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُراعاةَ حقِّ الوُلاةِ، واحترامَهُم، وعدَمَ الاستطالةِ عليهم.