باب {واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها} 1
بطاقات دعوية
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال:
"لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى.وكان في بني إسرائيل رجل يقال له: جريج، كان يصلي، جاءته أمه، فدعته [وهو في صومعة 2/ 60]، فقال: أجيبها أو أصلي؟ (وفي طريق أخرى: اللهم! أمي وصلاتي. قالت: يا جريج! قال: اللهم! أمي وصلاتي)، [ثم أتته] [قالت: يا جريج! قال: اللهم أمي وصلاتي] [فأبى أن يجيبها 3/ 108]، فقالت: اللهم! لا تمته حتى تريه وجوه المومسات، وكان جريج في صومعته، [فقالت امرأة] [راعية ترعى الغنم:] [لأفتنن جريجا]، فتعرضت له، فكلمته، فأبى، فأتت راعيا، فأمكنته من نفسها، فولدت غلاما، [فقيل لها: ممن هذا الولد؟]، فقالت: {هو} من جريج، فأتوه، فكسروا صومعته، وأنزلوه، وسبوه، فتوضأ وصلى، ثم أتى الغلام، فقال: [أين هذه التي تزعم أن ولدها لي؟! قال:] من أبوك يا غلام؟ فقال: الراعي. قالوا: نبني صومعتك من ذهب؟ قال: لا؛ إلا من طين.
وكانت امرأة ترضع ابنا لها من بني إسرائيل، فمر بها رجل راكب، ذو شارة (49)، فقالت: اللهم! اجعل ابني مثله، فترك ثديها، وأقبل على الراكب فقال: اللهم! لا تجعلني مثله، ثم أقبل على ثديها يمصه -قال أبو هريرة رضي الله عنه: كأني أنظر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يمص أصبعه- ثم مر بأمة [تجرر ويلعب بها 4/ 148]، فقالت: اللهم! لا تجعل ابني مثل هذه، فترك ثديها فقال: اللهم! اجعلني مثلها، فقالت: لم ذاك؟ فقال: [أما]، الراكب؛ [فإنه كافر] جبار من الجبابرة، و [أما] هذه الأمة؛ [فإنهم] يقولون [لها]: سرقت، [وتقول: حسبي الله، ويقولون:] زنيت، [وتقول: حسبي الله]، ولم تفعل".
أقام اللهُ سُبحانَه الحياةَ على جُملةٍ مِن القَوانينِ الثَّابتةِ التي لا تَتغيَّرُ، وأحيانًا يَخرِقُ اللهُ عزَّ وجلَّ هذه القوانينَ؛ ليُعلِمَ الإنسانَ أنَّ مِن وَراءِ هذا الثَّباتِ ربًّا قادرًا يقولُ للشَّيءِ: كُن، فيكونُ، ومِن ذلك نُطْقُ بَعضِ الأطفالِ الرُّضَّعِ على غيرِ ما جَرَت به العادةِ.
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه لَمْ يَتكلَّمْ في المَهْدِ إلَّا ثَلاثةٌ، أي: لم يَتكلَّمْ في حالِ الصِّغَرِ التي لا يَتكلَّمُ فيها الأطفالُ إلَّا ثَلاثةٌ، والمهْدُ: الفِراشُ الَّذي يُهيَّأُ للرَّضيعِ أنْ يُربَّى فيه. وقد وَرَدَ في رِواياتٍ أُخرى كلامُ غيرِ هؤلاء الثَّلاثةِ، وأُجِيبَ عن الحصْرِ في هذا الحديثِ باحتمالِ أنْ يكونَ المعنى: لم يَتكلَّمْ في بَني إسرائيلَ، أو أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَه قبْل أنْ يَعلَمَ الزِّيادةَ.
أوَّلُ هؤلاءِ الثَّلاثةِ: نَبيُّ اللهِ عِيسى ابنُ مَريمَ عليهِ السَّلامُ، حيثُ أنطَقهُ اللهُ عزَّ وجلَّ عِندما اتَّهَمَ القومُ أُمَّه مَريمَ في حَمْلِها به، فنَفى التُّهَمةَ عنها، كما في قولِه تعالَى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم: 29- 33].
والثَّاني: الغُلامُ الَّذي اتُّهِمُ به جُريجٌ راهبُ بَني إسرائيلَ، وكان بعْدَ نَبيِّ اللهِ عِيسى عليه السَّلامُ، وكانَ جُريجٌ عابِدًا يُصلِّي مُعتزِلًا النَّاسَ، فجاءَتْه أُمُّه في يومٍ ونادَتْه وهوَ يُصلِّي، فاحتارَ في نفْسِه وتَردَّدَ: هلْ يَقطَعُ صَلاتَه ويُجيبُ نِداءَ أُمِّهِ، أمْ يُكمِلُ الصَّلاةَ تاركًا نِداءَ أُمِّه؟ ففَضَّلَ أنْ يُكمِلَ الصَّلاةَ، وفي رِوايةٍ أُخرى في الصَّحيحينِ: أنَّ أُمَّه كرَّرَت نِداءَها عليه ثَلاثَ مرَّاتٍ، وفي كلِّ مرَّةٍ يَتردَّدُ قائلًا: رَبِّ أُمِّي وصَلاتي؟ ويَمْضي في صَلاتِه، وعدَمُ إجابتِه لها مع تَرديدِ نِدائِها له يُفهِمُ ظاهرُه أنَّ الكلامَ عندَه يَقطَعُ الصَّلاةَ، وإنَّما سَأَل أنْ يُلقيَ اللهُ في قلْبِه الأفضلَ، ويَحمِلَه على أَوْلى الأمْرَينِ به، فحمَلَه على الْتزامِ مُراعاةِ حقِّ اللهِ تعالَى على حقِّ أمِّه، ولَمَّا لم يُجِبْها في الثَّالثةِ، وآثَرَ استمرارَه في صَلاتِه ومُناجاتِه على إجابتِها، واختار الْتزامَ مُراعاةِ حقِّ اللهِ على حَقِّها؛ غَضِبَتْ أُمُّه ودَعَتْ عليهِ أنْ يَرَى قبْلَ مَوتِهِ المومِساتِ، وهُنَّ النِّساءُ البَغايا اللَّاتي يمارِسْنَ الرَّذِيلةَ والزِّنا ويُعرَفْنَ بذلكَ. وقد كان مِن كَرامةِ اللهِ تعالَى لجُريجٍ أنْ ألْهَمَ اللهُ أُمَّهُ الاقتِصادَ في الدَّعوةِ، فلم تَدْعُ عليه بالفِتنةِ بهِنَّ، بلْ دَعَتْ فقطْ بمُجرَّدِ النَّظرِ في وُجوهِهنَّ، فلمْ تَقتَضِ الدَّعوةُ إلَّا كَدَرًا يَسيرًا، بلْ أعْقَبَتْ سُرورًا كَثيرًا، وفي رِوايةِ مُسلِمٍ: «ولو دَعَت عليه أنْ يُفتَنَ لَفُتِنَ».
وكانَ جُرَيجٌ في صَوْمَعتِه لا يَخرُجُ منها إلَّا لحاجةٍ، والصَّوْمعةُ: بَيتٌ مِثلُ الدَّيْرِ والكَنيسةِ يَنقطِعُ فيها رُهبانُ النَّصارى للعِبادةِ، فأتَتْه امْرأةٌ وأرادتْ أنْ تُمكِّنَه مِن نفْسِها بالزِّنا، فامتَنَعَ جُرَيجٌ، «فأتَتْ راعيًا فأمكَنَتْه مِن نفْسِها»، أي: فزنَى بها راعٍ يَرْعى الماشيةَ، وقدَّرَ اللهُ عزَّ وجلَّ الأسبابَ التي ستُحقِّقُ في جُريجٍ دَعوةَ أُمِّه عليه، فحَمَلتْ تلك المرأةُ الزَّانيةُ مِن هذا الرَّاعي، حتَّى انقَضَتْ أيَّامُها، فولَدَتْ غُلامًا، ولَمَّا سُئِلتْ عن والدِ الغُلامِ، قالتْ: إنَّه ابنُ جُرَيجٍ صاحبِ الصَّومعةِ؛ إشارةً إلى اتِّهامِه بالزِّنا معها، فذَهبَ إليهِ النَّاسُ فهَدَموا الصَّوْمعةَ وأخرَجوهُ مِنها، وجَعَلوا يُؤذُونَه بالسَّبِّ والشَّتمِ، فتَوضَّأَ جُرَيجٌ وصلَّى، ودَعا اللهَ في صَلاتهِ، ثمَّ أقْبَلَ على الولدِ الَّذي اتُّهِم فيهِ، وسَأَلَه: مَن أبوكَ يا غلامُ؟ فقال: أبِي الرَّاعي، فأنطَقَ اللهُ عزَّ وجلَّ الطِّفلَ بأنَّ الرَّاعي هو أبوهُ، فظَهَرَ للنَّاسِ كَرامةُ جُريَحٍ وبَراءَتُه، فلمَّا عَلِموا بَراءتَه أرادوا أنْ يُعيدوا بِناءَ صَوْمعتِه مِن ذَهبٍ، فرَفَضَ جُريجٌ ذلك، وأمَرَهم أنْ يُعيدوا بِناءَها مِن الطِّينِ، وهذا مِن تَواضُعِه رَحِمه اللهُ.
وأمَّا الغلامُ الثَّالثُ: فهو رَضيعُ امرأةٍ مِن بَني إسْرائيلَ، قدْ مَرَّ بها رجُلٌ راكبٌ لهُ هَيْبةٌ وهَيْئةٌ حَسنةٌ يُشارُ إليه بها، فقالَتِ الأُمُّ -لمَّا ظَهَرَ لها مِن عَظيمِ شَأنِ هذا الرَّجلِ-: «اللَّهمَّ اجْعَلِ ابْني مِثلَه»، فدَعَتِ اللهَ عزَّ وجلَّ أنْ يَجعَلَ ولَدَها مِثلَ هذا الرَّجلِ في عُلوِّ الشَّأنِ والمَكانةِ، فتَركَ الطِّفلُ الرَّضاعةَ مِن ثَدْيِ أُمِّهِ وتَوجَّهَ بنَظَرِه إلى الرَّاكبِ، فقالَ: «اللَّهمَّ لا تَجعلْني مِثلَه»، أي: فيما يُبطِنُ مِن التَّجبُّرِ والتَّكبُّرِ، وهذهِ كرامةٌ للغُلامِ؛ حيثُ نطَقَ في المهْدِ، ثمَّ عادَ الطِّفلُ مرَّةً أُخرى للرَّضاعةِ. فأخبَرَ أبو هُرَيرَة رَضيَ اللهُ عنه كأنَّه يَنظُرُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَصِفُ حالةَ رَضاعِ الطِّفلِ، فمَصَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إِصْبعَه تَوضيحًا وتَصويرًا، ثمَّ أكمَلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حِكايةَ الطِّفلِ معَ أُمِّه وهوَ يَرضَعُ، فأخبَرَ أنَّه مرَّ قومٌ بأَمَةٍ -أي: بامْرأةٍ مَملوكةٍ- يَظهَرُ عليها أثرُ الإذلالِ، فقالتِ الأمُّ: «اللَّهُمَّ لا تَجعَلِ ابْني مِثلَ هذِهِ»، لمَّا ظَهَرَ لها مِن إذْلالِ الممْلوكةِ وإهانتِها، دَعتِ اللهَ ألَّا يَجعَلَ ابْنَها مِثلَ تلكَ المرأةِ، فتَرَكَ الطِّفلُ ثَدْيَ أُمِّه مرَّةً ثانيةً ودَعا: اللَّهمَّ اجْعَلْني مِثلَ هذه الجاريةِ المملوكةِ. فسَأَلتِ المرأةُ ابْنَها لِمَا ظَهَرَ لها أنَّ كلامَه في مَهدِه لم يكُنْ عَبثًا: لِمَ دَعَوتَ اللهَ بعَكسِ ما ظهَرَ لي وبَعكسِ ما دَعَوتُ لكَ؟ فأجاب الغلامُ مُخاطِبًا أُمَّه ومُوضِّحًا لها أنَّ الرَّاكبَ إنَّما هو جبَّارٌ ظالمٌ مُتكَبِّرٌ، فلا أُحِبُّ أنْ أكونَ مِثلَه، وأمَّا الأَمةُ التي تَظهَرُ بمَظهَرِ الذُّلِّ والهَوانِ، حيث يَتَّهِمونها بالسَّرقةِ والزِّنا، لكنَّها في حَقيقةِ أمْرِها مَظلومةٌ؛ لم تَسرِقْ ولم تَزنِ، واللهُ معَ المظلومِ وناصرُهُ، وهيَ تَلتجِئُ إلى اللهِ تعالَى أنْ يُجيرَها وأنْ يُثِيبَها، فأحببْتُ أنْ أكونَ مِثلَها.
وفي الحديثِ: فضْلُ طاعةِ الأُمِّ والحذَرُ مِن إغضابِها.
وفيه: أنْ يُحسِنَ العبدُ ظَنَّه برَبِّه في شَدائدِه.
وفيه: أنَّ مَن أهمَّهُ أمرٌ فليَفْزَعْ إلى اللهِ تعالَى، وليُقبِلْ عليهِ بالصَّلاةِ والدُّعاءِ.
وفيه: إثباتُ كَراماتِ الأولياءِ.
وفيه: أنَّ صاحبَ الصِّدقِ مع اللهِ لا تَضُرُّه الفِتَنُ.
وفيه: أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يَجعَلُ لأوليائِه مَخارجَ عندَ ابتلائِهِم، وإنَّما يَتأخَّرُ ذلك عن بَعضِهم في بَعضِ الأوقاتِ تَهذيبًا وزِيادةً في الثَّوابِ.