[باب] {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا 4
بطاقات دعوية
عن محمد بن سيرين قال: جلست إلى مجلس فيه عظم من الأنصار، وفيهم عبد الرحمن بن أبى ليلى، فذكرت حديث عبد الله بن عتبة فى شأن سبيعة بنت الحارث (20)، فقال عبد الرحمن: ولكن عمه (21) كان لا يقول ذلك (22)! قلت: إنى لجرىء إن كذبت على رجل فى جانب الكوفة , ورفع صوته، قال: ثم خرجت، فلقيت مالك بن عامر -أو مالك بن عوف- قلت: كيف كان قول ابن مسعود فى المتوفى عنها زوجها وهى حامل؟ فقال: قال: أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون لها الرخصة؟ لنزلت {سورة النساء} القصرى (23) بعد الطولى.
شرَع اللهُ تعالى العِدَّةَ للمرأةِ الَّتي تُوفِّي عنها زَوجُها؛ لِحَكمٍ وأسبابٍ كَثيرةٍ، ومِن أهمِّ هذه الحِكَمِ والأسبابِ اسْتِبْراءُ الرَّحِمِ، فإذا كانت تلك المرأةُ حامِلًا ثمَّ وضَعَتْ حمْلَها، فقدْ حلَّت للأزواجِ، وانتهَت عِدَّتُها.
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ التابِعيُّ محمَّدُ بنُ سِيرينَ أنَّه كان في حلْقةِ علمٍ فيها عبدُ الرَّحمنِ بنُ أبي لَيلَى، وَكانَ أَصْحابُه يُوقِّرونه ويُجِلُّونه؛ لعِلمِهِ، ولصُحبتِهِ أصحابَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقد أفْتَى أنَّ المتوفَّى عنها زَوجُها وهي حاملٌ تَعْتَدُّ آخِرَ الأَجلينِ؛ إمَّا الوضعُ، وإمَّا أربعةُ أشهرٍ وعشْرٌ، فحدَّثَ ابنُ سِيرينَ بحَديثِ سُبَيْعَةَ بنتِ الحارثِ رَضِيَ اللهُ عنها عندما سمِع تلك الفتوى، وفيه: أنَّها قُتِلَ زوجُها وهي حُبلَى، فوضَعَتْ بعْدَ وفاتِهِ بأربعين ليْلةً، فخُطِبَت، فزوَّجَها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقدْ رواه ابنُ سِيرين، عن عبدِ الله بنِ عُتْبة بنِ مَسعودٍ، ابنِ أخي عبدِ الله بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال ابنُ سِيرينَ: «فَضَمَّزَ لي بَعْضُ أَصحابِهِ»، أي: عَضَّ على شَفَتِهِ مُشيرًا أنِ اسْكُت، ففَطِنَ ابنُ سِيرينَ لتلك الإشارةِ وانْتبَه، فقال: «إنِّي إذنْ لَجَرِيءٌ إنْ كَذَبْتُ على عَبْدِ اللهِ بنِ عُتْبَةَ وهو في ناحِيَةِ الكُوفَةِ».
قال ابنُ سِيرينَ: «فاسْتَحْيا»، أي: إنَّ عبدَ الرحمن بنَ أبي لَيلَى استحيَا ممَّا صَدَرَ مِن الإشارةِ إلى الإنكارِ عليْه، وقال: «لَكِنْ عَمُّه لَمْ يَقُلْ ذاكَ»، يَقصِدُ: عبدَ اللهِ بنَ مَسعودٍ، فلقِيَ ابنُ سِيرينَ أبا عَطيَّةَ مالكَ بنَ عامرٍ، فسأَلَه مُتثبِّتًا فيما يَتعلَّقُ بتلك المسألةِ، فحَدَّثَه أبو عطيَّةَ حَديثَ سُبَيعةَ رَضِي اللهُ عنها، فسَألَه ابنُ سِيرينَ عن سَماعِه شيئًا مِن ابنِ مسعودٍ في تلك المسألةِ، فأجابه أبو عَطيَّةَ أنَّه كان عندَ عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِي اللهُ عنه، فقال ابنُ مَسعودٍ: «أَتَجْعَلونَ عليها التَّغْلِيظَ ولا تَجْعَلونَ عليها الرُّخْصَةَ؟!» والمرادُ بالتَّغليظِ: طُولُ العِدَّةِ بالحَملِ إذا زادتْ مُدَّتُه على مُدَّةِ الأشهرِ، وقدْ يَمتَدُّ إلى تِسعةِ أشهرٍ، ولا يُحكَمُ بانقضاءِ عِدَّتِها ما لم تَضَعْ. والمرادُ بالرُّخصةِ: أنَّها إذا وضَعَتْ لأقلَّ مِن أربعةِ أشهُرٍ وعشرٍ. ومُرادُ كَلامِ ابنِ مَسعودٍ رَضِي اللهُ عنه: أنَّكم إذا ألْزَمْتُموها هذا التَّغليظَ، فاجْعَلوا لها أيضًا الرُّخصةَ. وقال ابنُ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه: «لَنَزَلَتْ سُورَةُ النِّساءِ القُصْرَى بَعْدَ الطُّولَى»، والمرادُ بالقُصرى: سُورةُ الطَّلاقِ، والمرادُ بالطُّولى: سُورةُ البقرةِ، ومُرادُ ابنِ مَسعودٍ رَضِي اللهُ عنه: أنَّ قولَه تعالَى في سُورةِ الطَّلاقِ: {وَأُولَاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] نزَلَ بعْدَ قولِهِ تعالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]؛ فحُمِلَ الحُكمُ على النَّسخِ.
وفي الحَديثِ: ردُّ مَن عندَه عِلمٌ على العالمِ إذا أخطأَ مع بَيانِ الحُجَّةِ والدَّليلِ، مع حُسنِ الأدبِ، وقَبولُ العالمِ لذلِك.