باب: ومن سورة التوبة1
سنن الترمذى
حدثنا الحسن بن علي الخلال قال: حدثنا حسين بن علي الجعفي، عن زائدة، عن شبيب بن غرقدة، عن سليمان بن عمرو بن الأحوص قال: حدثنا أبي، أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ثم قال: «أي يوم أحرم، أي يوم أحرم، أي يوم أحرم؟» قال: فقال الناس: يوم الحج الأكبر يا رسول الله، قال: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، ألا لا يجني جان إلا على نفسه، ولا يجني والد على ولده، ولا ولد على والده، ألا إن المسلم أخو المسلم، فليس يحل لمسلم من أخيه شيء إلا ما أحل من نفسه، ألا وإن كل ربا في الجاهلية موضوع، لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون غير ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله، ألا وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع، وأول دم وضع من دم الجاهلية دم الحارث بن عبد المطلب، كان مسترضعا في بني ليث فقتلته هذيل، ألا واستوصوا بالنساء خيرا، فإنما هن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضربا غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا، ألا وإن لكم على نسائكم حقا، ولنسائكم عليكم حقا، فأما حقكم على نسائكم، فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وإن حقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن»: «هذا حديث حسن صحيح» وقد رواه أبو الأحوص، عن شبيب بن غرقدة
جمَع النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في مواضِعَ مُتفرِّقةٍ في حَجَّةِ الوداعِ وصايا جامعةً لأُمَّتِه، فيها الكثيرُ من الأوامِرِ والنَّواهي والتَّوجيهاتِ.
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ عمرُو بنُ الأحوصِ الجُشَميُّ رضِيَ اللهُ عنه: "أنَّه شهِدَ حَجَّةَ الوداعِ مع رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ"، وكانتْ في السَّنةِ العاشرةِ من الهِجرةِ، وفيها خطَبَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقد جاء في الصَّحيحينِ من حديثِ أبي بكرةَ رضِيَ اللهُ عنه: أنَّ تلك الخُطبةَ كانتْ في يومِ النَّحرِ، "فحمِدَ اللهَ وأثْنى عليه"، أي: جَعَلَ مُقدِّمةَ الخُطبةِ الحمْدَ والشُّكرَ للهِ، وذِكْرَه بما هو أهْلُه، "وذكَّرَ ووعَظَ"، أي: جعَلَ يُذكِّرُ النَّاسَ ويعِظُهم، "ثمَّ قال: أيُّ يومٍ أحرَمُ؟ أيُّ يومٍ أحرَمُ؟ أيُّ يومٍ أحرَمُ؟" أيُّ يومٍ أعظَمُ حُرمةً فيما تَرَون؟ فقال النَّاسُ: "يومُ الحَجِّ الأكبرِ يا رَسولَ اللهِ"، أي: أجاب النَّاسُ بما يَعْلمونه ويَظنُّونه أنَّه أعظَمُ الأيَّامِ حُرمةً، وهو يومُ الحجِّ الأكبرِ، قيل: هو يومُ النَّحرِ، وقيل: يومُ عرفةَ، فقال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُبيِّنًا ومُحذِّرًا: "فإنَّ دِماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرامٌ"، أي: هذه الأُمورُ مُحرَّمةٌ، وليس لبعضِكم أنْ يَتعرَّضَ لبعضٍ، فيُريقَ دمَه، أو يَسلُبَ مالَه، أو يَنالَ من عِرْضِه، "كحُرمةِ يَومِكم هذا"، والمعنى: أنَّ تعرُّضَ بَعضِكم لدِماءِ بعضٍ وأموالِهم وأعراضِهم مُحرَّمٌ تَحريمًا شديدًا، مِثلَ تحريمِ هَذا اليومِ العَظيمِ مِن أيَّامِ الحَجِّ، وهو مِن أيامِ الأَشهُرِ الحُرُمِ. "في بلدِكم هذا"، أي: مكَّةَ، أو الحرَمِ كلِّه، "في شَهرِكم هذا"، أي: شَهرِ ذي الحجَّةِ، وهذا كلُّه من التَّغليظِ في حُرمةِ التَّعرُّضِ للدِّماءِ والأموالِ والأعراضِ.
ثُمَّ قال صلَّى الله عليه وسلَّم: "ألَا لا يَجْني جانٍ إلَّا على نفْسِه، ولا يَجْني والدٌ على ولَدِه، ولا ولدٌ على والدِه"، والمعنى: أنَّ كلَّ إنسانٍ يَحمِلُ أوزارَ نفْسِه وجِنايتِها في الدُّنيا والآخرةِ، ولا يحمِلُها عنه غيرُه، ولا يرجِعُ وَبالُ جِنايتِه من الإثمِ أو القصاصِ إلَّا على نفْسِه، وهذا كما قال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، وإنَّما خَصَّ الولَدَ والوالدَ؛ لأنَّهما أقرَبُ الأقاربِ، فإذا لم يُؤاخَذْ بفِعْلِه، فغيرُهما أولى. "ألَا إنَّ المُسلِمَ أخو المُسلِمِ"، أي: أخوهُ في الدِّينِ؛ "فليس يحِلُّ لمُسلِمٍ من أخيه شَيءٌ إلَّا ما أحَلَّ من نفْسِه"، أي: لا يُباحُ لأحدٍ ممَّا يخُصُّ أخاهُ المُسلِمَ شَيءٌ إلَّا ما أباحَه له أخوهُ من نفْسِه.
"ألَا وإنَّ كلَّ رِبًا في الجاهليَّةِ موضوعٌ"، أي: باطلٌ ومُهْدَرٌ، ولا يُؤخَذُ به، "لكم رُؤوسُ أموالِكم"، أي: لكم أنْ تأخُذوا أُصولَ أموالِكم فقطْ دونَ الزِّيادةِ عليها، "لا تَظْلِمون ولا تُظْلَمون"، أي: لا تأْخُذون باطلًا لا يحِلُّ لكم، ولا تُنْقَصونَ من أموالِكم، "غيرَ رِبا العبَّاسِ بنِ عبدِ المُطَّلبِ؛ فإنَّه موضوعٌ كلُّه"، وفي روايةِ ابنِ ماجه: "وأوَّلُ رِبًا أضَعُه رِبَانَا رِبَا العبَّاسِ بنِ عبدِ المُطَّلبِ؛ فإنَّه موضوعٌ كلُّه"، أي: أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بدَأَ بأقاربِه؛ ليحُثَّ النَّاسَ على الاقتِداءِ، وأنْ يفعَلوا مثْلَه.
"ألَا وإنَّ كلَّ دمٍ كان في الجاهليَّةٍ موضوعٌ"، أي: متروكٌ ومُهدرٌ، ولا قِصاصَ فيه، ولا دِيةَ، ولا كفَّارةَ، "وأوَّلُ دَمٍ أضَعُ من دَمِ الجاهليَّةِ دَمُ الحارثِ بنِ عبدِ المُطَّلبِ كان مُسترضَعًا في بني ليثٍ"، أي: كانْتَ له مُرْضِعةٌ تُرضِعُه في بَني ليثٍ "فقتلَتْه هُذيلٌ"، وكانَ طِفلًا صَغيرًا يَحبُو بيْنَ البُيوتِ، فأصابَه حَجَرٌ فماتَ، والمعنى: أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بدأ بنِفَسْهِ فوضَعَ وترَكَ ما يخُصُّ أهْلَه وعَشيرتَه من الدِّماءِ؛ فأهدَر الدَّمَ المستحَقَّ للحارثِ بنِ عبدِ المُطَّلبِ، وهُو ابِن عَمِّه؛ لِيعلَمَ النَّاسُ أنه لا رُخْصَة لأحدٍ في إعَادةِ أَوْتارِ الجاهليةِ، ونسَبَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم الدَّمَ إلى الحارثِ؛ لأنَّه جَدُّ الطِّفلِ القَتيلِ الَّذي هو ابنُ رَبيعةَ بْنِ الحارثِ بن عبدِ المطَّلبِ، والدَّمُ قد يُنسَبُ لأوليائِه من الآباءِ والأجْدادِ.
"ألَا واسْتَوصوا بالنِّساءِ خيرًا"، أي: أُوصيكم بهنَّ خيرًا بالإحسانِ إليهنَّ، وإطعامِهنَّ وكِسوتِهنَّ وعِشرتِهنَّ بالمعروفِ، وعدمِ ضَربهِنَّ ولا تَقبيحهِنَّ؛ "فإنَّما هنَّ عوانٍ عندكم"، العواني جمْعُ عانيةٍ، أي: أسيرةٌ، وشبَّهَهنَّ بذلك؛ لأنَّهنَّ عندَ الرِّجالِ ويَتحكَّمونَ فيهنَّ، وهنَّ يَخضعْنَ لسُلطانِ الرِّجالِ، "ليس تمْلِكون منهنَّ شيئًا غيرَ ذلك"، أي: لا شَيءَ لكم على النِّساءِ إلَّا ذلك من الوصيَّةِ بهنَّ والإحسانِ إليهنَّ، "إلَّا أنْ يأتينَ بفاحشةٍ مُبيِّنةٍ"، أي: إلَّا أنْ يفعَلْنَ فِعْلَ الفاحِشةِ، وهي كلُّ ما يَشتَدُّ قُبْحُه من الذُّنوبِ والمعاصي، وكلُّ خَصلةٍ قَبيحةٍ من الأقوالِ والأفعالِ، وكثيرًا ما تَرِدُ بمعنى الزِّنا، ولعلَّ المرادَ بِالفاحِشَةِ هُنا المعنى العامُّ لأيِّ فِعلٍ قَبيحٍ لا يَرضَى عنه الزَّوجُ، ويَستوجِبُ العقابَ؛ "فإنْ فعلْنَ فاهْجُروهن في المضاجعِ" بأنْ يُولِّيَها ظهْرَه في الفِراشِ الواحدِ ولا يُكلِّمُها، وقيل: هو أنْ يَعتزِلَ عنها إلى فِراشٍ آخَرَ، "واضْرِبوهن ضَربًا غيرَ مُبرِّحٍ" ومعناه: اضْرِبوهن ضَربًا ليس بشَديدٍ ولا شاقٍّ، "فإنْ أطعْنَكم فلا تَبْغوا عليهنَّ سَبيلًا"، أي: فلا تظْلِمونهن بأيِّ طريقةٍ، وهذا مِن حُسْنِ الوصيَّةِ بالنِّساءِ والتَّدرُّجِ في مُعاقبَتِهنَّ إذا وقعْنَ في الأُمورِ الفاحشةِ.
ثم وضَّح صلَّى الله عليه وسلَّم حُقوقَ كلٍّ مِن الرِّجالِ والنِّساءِ على الآخَرِ، فقال: "ألَا وإنَّ لكم على نِسائكم حقًّا، ولنسائِكم عليكم حقًّا؛ فأمَّا حَقُّكم على نسائِكم: فلا يُوطِئْنَ فُرشَكم مَن تكْرَهون، ولا يأذَنَّ في بُيوتِكم لمَن تكْرَهون"، ومعنى ذلك: ألَّا تأذَنَ النِّساءُ لأحدٍ تَكْرهونه في دُخولِ بُيوتِكم والجُلوسِ في مَنازلِكم، سواءٌ كان المأذونُ له رجُلًا أجنبيًّا، أو امرأةً، أو أحَدًا من محارمِ الزَّوجةِ؛ فالنَّهيُ يتناوَلُ جميعَ ذلك، "ألَا وإنَّ حَقَّهنَّ عليكم: أنْ تُحْسِنوا إليهنَّ في كِسوتِهنَّ وطعامِهنَّ"، أي: يستحِقُّون منكم النَّفقةَ على قَدْرِ كِفايتِهنَّ، من غيرِ إفراطٍ أو تَفريطٍ.
وفي الحديثِ: بيانُ حُرمةِ الأموالِ والأنفُسِ والأعراضِ بين المُسلمين.
وفيه: بيانُ حُرمةِ الرِّبا.
وفيه: وصيَّةُ الرِّجالِ والنِّساءِ في حَقِّ بعضِهم البعضِ.
وفيه: أنَّ الإنسانَ إذا أمَرَ غيْرَه أو نهاهُ؛ فعليه أنْ يبدَأ بنفْسِه ومَن هو منه، إذا كان فيه هذا الأمْرُ.