‌‌باب ما جاء في الغيبة

سنن الترمذى

‌‌باب ما جاء في الغيبة

حدثنا قتيبة قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله، ما الغيبة؟ قال: «ذكرك أخاك بما يكره»، قال: أرأيت إن كان فيه ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته» وفي الباب عن أبي برزة، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو: هذا حديث حسن صحيح
‌‌

نَهانا الإسلامُ عَنْ مَساوئِ الأخلاقِ، وحَرَّم الغِيبةَ تَحريمًا مُغَلَّظًا، فجعَلَها مِن كَبائرِ الذُّنوبِ، وهي مِن أكثَرِها انتشارًا بيْن النَّاسِ، حتَّى إنَّه لا يَكادُ يَسْلَمُ منها إلَّا القليلُ مِن النَّاسِ.
وفي هذا الحديثِ يَسألُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أصحابَه: «أَتدْرُونَ»، أي: أَتَعلمونَ «مَا الغِيبةُ؟» فَأَجابوا: «اللهُ ورسولُهُ أعلمُ»، وهذا مِن الأدبِ مع اللهِ سُبحانه ومع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فرَدُّوا العلمَ لهما، فَأجابَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ الغِيبةَ «ذِكْرُكَ أخاكَ بما يَكْرَهُ» والمعنى: أنْ يَتناوَلَ المسْلمُ أخاهُ المسْلمَ في غِيابِه بكلامٍ وأوصافٍ مَذْمومةٍ، لو كان حاضرًا أو وصَلَتْ له لَكرِهَها، سواءٌ كان ذلك في بَدَنِ الشَّخصِ، أو دِينِه أو دُنياه، أو نَفْسِه، أو خُلُقِه أو خَلْقِه، أو غيرِ ذلك ممَّا يَتعلَّقُ به، سَواءٌ ذَكَرْتَه باللَّفظِ أو بالإشارةِ والرَّمزِ، وقدْ حذَّرَ اللهُ تعالَى منها في كِتابِه الكريمِ، فقال: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12].
فَسَألَ بعضُ الصِّحابةِ عمَّا إذا كانت هذه الأوصافُ أو بعضُها مُتحقِّقةً في صاحبِها، أيُعَدُّ هذا مِن الغِيبةِ المَنهيِّ عنها؟ فَأجاب صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه إن كان فيه ما تقولُ مِنَ العَيبِ والمنقصَةِ، فَقدِ اغتَبْتَه، أي: لا مَعنى لِلغِيبةِ إلَّا هذا، وهو أنْ تكونَ المَنْقَصَةُ فيه، وإنْ لم يَكُنْ فيه ما تقولُ، فقدْ «بَهَتَّهُ»، أي: قُلْتَ عليه الْبُهتانَ، وهو الكَذِبُ العَظيمُ يُبْهَتُ فيه مَن يُقالُ في حَقِّهِ، وذَنْبُه أعظَمُ مِن الغِيبةِ.
والغِيبةُ وإنْ كانت محرَّمةً فإنَّها تُباحُ في بعضِ الأحوالِ للمصلحةِ؛ ومِن ذلك: دفْعُ الظُّلمِ، بحيثُ يَذكُرُ المَظلومُ مَن ظلَمَه، فيَقولُ: ظَلَمَني فُلانٌ، أو فَعَل بي كذا. ومنها: التَّحذيرُ مِن شرِّ مَن عُرِفَ بالسُّوءِ ونَصيحةُ مَن يَتعامَلُ معه. ومنها: المُشَاوَرَةُ في أمْرِ الزواجِ أو المُشارَكةِ أو المُجاوَرَةِ، ونَحوِ ذلكَ. ومنها: غِيبةُ المُجاهِرِ بفِسْقِه أو بِدعَتِه، كالخَمرِ؛ فيَجوزُ ذِكرُه بما يُجاهِرُ به فقطْ.
وفي الحديثِ: بيانُ مَعنى الغِيبةِ، والفرْقِ بيْنها وبيْن البُهتانِ.
وفيه: النَّهيُ عَنِ الغِيبةِ وَالبُهتانِ.
وفيه: بَيانُ تَعاهُدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِأصحابِه وتَعليمِهم المفاهيمَ الصَّحيحةَ، ونَهْيِهم عن مَساوئِ الأخلاقِ.