باب: ومن سورة النور1
سنن الترمذى
حدثنا عبد بن حميد قال: حدثنا روح بن عبادة، عن عبيد الله بن الأخنس قال: أخبرني عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: كان رجل يقال له: مرثد بن أبي مرثد، وكان رجلا يحمل الأسرى من مكة حتى يأتي بهم المدينة، قال: وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها: عناق وكانت صديقة له، وإنه كان وعد رجلا من أسارى مكة يحمله، قال: فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة، قال: فجاءت عناق فأبصرت سواد ظلي بجنب الحائط فلما انتهت إلي عرفت، فقالت: مرثد؟ فقلت: مرثد. فقالت: مرحبا وأهلا هلم فبت عندنا الليلة. قال: قلت: يا عناق حرم الله الزنا، قالت: يا أهل الخيام، هذا الرجل يحمل أسراءكم، قال: فتبعني ثمانية وسلكت الخندمة فانتهيت إلى كهف أو غار فدخلت، فجاءوا حتى قاموا على رأسي فبالوا فظل بولهم على رأسي وعماهم الله عني، قال: ثم رجعوا ورجعت إلى صاحبي فحملته وكان رجلا ثقيلا حتى انتهيت إلى الإذخر، ففككت عنه أكبله فجعلت أحمله ويعييني حتى قدمت المدينة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، أنكح عناقا؟ فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرد علي شيئا حتى نزلت الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا مرثد الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك، فلا تنكحها»: «هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه»
اللِّعانُ بيْن الزَّوجينِ يَكونُ نَتيجةَ اتِّهامِ الزَّوجِ زَوجَتَه بِالزِّنا ونَفْيِه لِنَسبِ الولدِ منها، فإذا نَفَتِ المرأةُ ذلك حُكِمَ بيْنهما بِالتَّلاعُنِ، وصُورَتُه تكونُ كما في قَولِه تعالَى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 8 - 9].
وقد وقع في زَمَنِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ هِلالَ بنَ أُميَّةَ رضِي اللهُ عنه اتَّهمَ امرأتَه بِالزِّنا، فقال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: البَيِّنَةَ أو حدٌّ في ظَهْرِك، يعني: إمَّا أنْ تأتِيَ بِالبيِّنة الدَّالَّةِ على زِنا زوجتِك -نحوَ إقرارِها أو شهادةِ أربَعِ شُهودٍ- أو تُحَدَّ حدَّ القاذفِ، وهو ثمانون جَلدةً؛ لأنَّه رمى غيرَه بالزِّنا دونَ بَيِّنةٍ، فأنزلَ اللهُ تعالَى فيهما حكْمَ مَن قذَفَ امرأتَه بِالزِّنَا وأنْكرَتِ امرأتُه ذلك، فكان اللِّعانُ بيْنهما، وهو أنْ يَشهَدَ الرَّجلُ أربعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إنَّه لَصادقٌ، ثُمَّ يَشهَدَ الخامسةَ أنَّ لَعْنةَ اللهِ عليه إنْ كان كاذبًا، ثُمَّ تَشهدَ المرأةُ أربعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إنَّه لَمِنَ الكاذِبِينَ، وتَشهَدَ الخامسةَ أنَّ غضَبَ اللهِ عليها إنْ كان زَوجُها صادقًا.
وفي هذا الحديثِ يروي سعيدُ بنُ جُبَيرٍ أنَّه سأل عبدَ اللهِ بنَ عُمرَ رضِي اللهُ عنهما عَن هذه الحادثةِ، فذكَرَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بيَّن لهما –لهلالِ بنِ أمَيَّةَ، وامرأتِه، بعد أن ثبت كُلُّ واحدٍ منهما على قَولِه وكَذَّب صاحِبَه، أنَّ اللهَ سُبحانه وتعالَى يَعلَمُ الصَّادقَ منهما والكاذِبَ، وأنَّه تعالَى يَتولَّى حِسابِهما، ثُمَّ فرَّقَ بيْنَهُما، وأخبر صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هلالَ بنَ أميَّةَ رضِيَ اللهُ عنه أنَّه لا سَبيلَ له عليها، أي: ليس له سُلطانٌ على زوجتِه التي لاعنها، وانحَلَّت عُقدةُ النِّكاحِ بينهما إلى الأبَدِ، فطلب هلالٌ رضِي اللهُ عنه من النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يسترِدَّ له منها مالَه الَّذي دفعه لها مَهْرًا، فبيَّن له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه لا يستحِقُّ شيئًا مِن مَهْرِه الذي دفَعَه لها؛ إمَّا أنْ يكونَ صادِقًا في دَعواه وأنَّها زانيةٌ بالفِعلِ وكَذَبَت في يمينِها، وهي في هذه الحالةِ تَستحِقُّ المهْرَ مقابِلَ ما استحلَلَه مِن فَرْجِها، وإمَّا أنْ يكونَ كاذبًا في اتهامِه لها بالزِّنا، وأنَّه حلف كَذِبًا، وهذه الحالةُ أَولى ألَّا يُرَدَّ له شَيءٌ من المهرِ.
ويُخبِرُ سعيدُ بنُ جُبيرٍ أنه سأل ابنَ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما عن رجلٍ لاعن امرأتَه، أيُفرَّق بينهما؟ فأشار ابنُ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما بإصبَعَيه السَّبابةِ والوسطى وفرَّق بينهما، ثم ذكَرَ له أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فرَّقَ بَيْنَ أَخَوْي بَني عَجلانَ، وهمُ الزَّوجانِ مِن بَني عَجلانَ اللَّذَيْنِ لاعَنَا عندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقالَ لهما صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «اللهُ يَعْلَمُ أنَّ أحَدَكُما كَاذِبٌ، فَهلْ مِنْكُما تَائِبٌ؟ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ»، وظاهِرُه أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال ذلك بعد الفراغِ مِنَ اللِّعانِ، ففيه عَرضُ التوبةِ على المذنِبِ ولو بطريقِ الإجمالِ. وقيل: قاله قبل اللِّعانِ تحذيرًا لهما.
وتَفريقُ ابنِ عُمرَ رضِي اللهُ عنهما بين إِصبعَيْه السَّبَّابةِ وَالوُسطى: إشارةٌ إلى التَّفريقِ بَيْنَ المُتلاعِنَيْنِ، فهو تبيينٌ للمعنى بالإشارةِ مع البيانِ باللَّفظِ.
وفي الحَديثِ: جانِبٌ من عَظَمةِ التشريعِ الإسلاميِّ.
وفيه: دَليلٌ على استقرارِ المهرِ بالدُّخولِ.
وفيه: ثُبوتُ مَهرِ الملاعَنةِ المدخولِ بها.