باب: ومن سورة العنكبوت
سنن الترمذى
حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن يزيد بن كيسان قال: حدثني أبو حازم الأشجعي، هو كوفي اسمه: سلمان مولى عزة الأشجعية، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه: «قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة» فقال: لولا أن تعيرني بها قريش أن ما يحمله عليه الجزع، لأقررت بها عينك، فأنزل الله عز وجل {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} [القصص: 56]: «هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن كيسان»
كان الصَّحابةُ رَضيَ اللهُ عنهم يَرْوُون مِن قَصصِ إسلامِهِم ومَواقفِهم مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ويَحرِصون في ذلك على إبرازِ ما تَرتَّبَ على تلك المواقفِ مِن أوامرَ ونَواهٍ.
وفي هذا الحديثِ يَرْوي سَعْدُ بنُ أبي وَقَّاصٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه قد نَزَلَتْ فيه آياتٌ مِنَ القُرآنِ؛ ومنها: أن أُمَّه حَلَفَتْ ألَّا تُكلِّمَه أبدًا ولا تَأكُلَ ولا تَشْرَبَ حتَّى يَكفُرَ بدِينِ الإسلامِ، وقالت له: «زَعَمْتَ» أي: إنَّكَ ذكَرْتَ عن دِينِكَ أنَّ اللهَ وَصَّاك بِوَالِدَيْكَ، وفَرَض عليك الاعتِناءَ والإحسانَ بوَالِدَيْكَ، وأنا أُمُّكَ، وأنا آمُرُكَ بتَركِ الإسلامِ وأنْ تَعودَ مُشرِكًا، ويَحْكِي سَعْدٌ أنَّها ظَلَّتْ مدة ثلاث ليال دُونَ أكلٍ وشُربٍ، حتَّى أُغْمِيَ عليها وفَقَدت وَعْيَها؛ مِنَ الجَهْدِ والتَّعَبِ، فقام ابنٌ لها يُقال له: عُمَارَةُ، فسَقَاها، وفي روايةٍ: «فَكانوا إذا أرَادُوا أنْ يُطْعِمُوها شَجَرُوا فاهَا بعَصًا، ثُمَّ أوْجَرُوها» يعني: فَتَحوا فَمَها بعَصًا لإبقاءِ فَمِها مَفتوحًا، ثمَّ صَبُّوا فيه الطَّعامَ، فجَعَلَتْ تَدعُو على سَعْدٍ، فأنزَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ في القُرآنِ هذه الآيةَ: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 14، 15]، والمعنى: إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ أمَرَ برِعايةِ الأبوينِ والسَّعيَ في إرضائهِما وبِرِّهما وإدخالِ السُّرورِ عليهما، إلَّا أنَّ هذا البِرَّ والصَّلاحَ بهما لا يَستلزِمُ معه أنْ تَستجيبَ لهما في دَعوتِهما لكَ بالكُفرِ والعِصيانِ للهِ عزَّ وجلَّ، فالنَّهيُ في الآيةِ مُؤكِّدٌ على عدَمِ طاعتِهما في هذا الأمرِ، وهذا لا يَمنَعُ مِن بَقاءِ المعروفِ والبِرِّ لهما، ولعلَّ ذِكرَ آيةِ سُورةِ العنكبوتِ في المتْنِ خَطأٌ، ومُرادُ الرَّاوي آيةُ سُورةِ لُقمانَ الَّتي تَقدَّمَت، وهذا ما يدُلُّ عليه السِّياقُ وبعضُ رِواياتِ الحديثِ، ويَحتمِلُ أنَّ كِلتا الآيتينِ نَزَلَت في تلك الحادثةِ.
ثُمَّ يَحكِي سَعْدٌ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أصاب غَنِيمَةً عَظيمةً، والغنيمةُ تُطلَقُ على كلِّ ما أخَذَه المُسلِمونَ مِن أموالِ الكفَّارِ على وَجْهِ الغَلَبةِ والقَهْرِ، وكان في تلكَ الغنيمةِ سَيفٌ أُعجِبَ به سَعدٌ وأرادهُ لنَفسِه، فأخَذَه سَعْدٌ، فأتَى به رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال سَعْدٌ: «نَفِّلْنِي هذا السَّيْفَ»، أي: أَعْطِنِيهِ على سَبِيلِ النَّفْلِ، وهو ما يُعطَى الغازِي زيادةً على سَهْمِه في الغَنِيمَةِ؛ «فأنا مَن قد عَلِمْتَ حالَه» يعني: مِن حُسنِ البلاءِ في الحُروبِ، فلمْ يَستجِبِ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ له، وأمَرَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَرُدَّه إلى الغَنيمةِ، قال سَعدٌ رَضيَ اللهُ عنه: «فانْطَلَقْتُ حتَّى إذا أردتُ أن أُلْقِيَه في القَبَضِ»، أي: في المالِ المقبوضِ، وهو الغَنِيمَة؛ «لامَتْنِي نَفْسِي» أي: لأنَّه مِن شِدَّةِ إرادتِه للسَّيفِ، جَعَلَت نفْسُه تَطمَحُ إليه وتُريدُه، فرَجَع إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مرَّةً أُخرَى، يَطلُبُه لنَفسِه، قال سَعدٌ: «فشَدَّ لي صَوْتَه» أي: إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رَفَع صَوتًه مُبيِّنًا شِدَّةَ نَهيِه له عن أخْذِه، وقال للمرَّةِ الثَّانيةِ: «رُدَّهُ مِن حيثُ أَخَذْتَهُ»، فأنزَل اللهُ عزَّ وجلَّ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1].
ثُمَّ أخبَرَ سعدٌ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه قدْ مَرِضَ، وظنَّ أنَّه مَرضُ مَوتِه، فأَرْسَل إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأَتَاهُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَعُودُه، فقال سَعْدٌ: «دَعْنِي أَقْسِمْ مالي حيثُ شِئتُ» أي: أرادَ سَعدٌ أنْ يُوصِيَ ويَتصدَّقَ بثُلثَي مالِه، كما في رِوايةٍ أُخرى في الصَّحيحينِ، فرَفَضَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وَصيَّتَه تلك، قال سَعْدٌ: فالنِّصْف؟ أي: نِصْف مالِه، فرَفَضَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قال سَعدٌ: فالثُّلُثُ، فسَكَتَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إقرارًا منه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على جَوازِ الوصيَّةِ بالثُّلثِ، وفي رِوايةٍ في الصَّحيحينِ: قال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «والثُّلثُ كَثيرٌ»، وكأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ استكثَرَ الثُّلثَ أيضًا.
ويُخبِرُ سَعْدٌ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه أتى على «نَفَرٍ» وهو عددٌ مِن ثَلاثةٍ إلى عَشَرَةٍ مِنَ الرِّجالِ، وكانوا مِنَ الأنصارِ -وهُم أهلُ المدينةِ- والمُهاجِرِينَ -وهُم كلُّ مَن هاجَرَ إلى المدينةِ وليْس مِن أهلِها-، فقالوا: تَعَالَ نُطْعِمك ونَسْقِيك خَمْرًا، وذلك قبلَ أن تُحرَّمَ الخَمْرُ، فأتاهم سعد رَضيَ اللهُ عنه في «حُشٍّ»، وهو: البُسْتَانُ، وكان عندهم رَأْسُ «جَزُورٍ» مَشْوِيٌّ، والجَزُورُ: يطلق على كل ما يراد ويَصلُح ذبحه مِنَ الإبِلِ، وكان عِندهم أيضًا: «زِقٌّ» وهو السِّقاءُ، مِن خَمْرٍ، فأكَلَ سَعْدٌ وشَرِب معهم، قال: «فذُكِرَتِ الأنصارُ والمهاجِرون عندَهم»، أي: تَكلَّموا في فَضلِهم وخِيارِهم، فقال سَعدٌ في القومِ: «المُهاجِرون خيرٌ مِنَ الأنصارِ»، فلمَّا سَمِع ذلك أحدُ الحاضرينَ مِن الأنصارِ، أَخَذ «لَحْيَيِ الرَّأسِ» وهو عَظْمُ الحَنَكِ، وهو الَّذي عليه الأسنانُ، وهو الخاصُّ بالجزورِ الَّذي يَأكُلونه، فضَرَب به أنفَ سَعْدٍ، وفي رِوايةٍ: «فَفَزَرَهُ»، أي: شَقَّه وجَرَحه، وكان هذا مِن أثرِ الخمرِ وسُكرِهم منها، فأتى سَعدٌ رَضيَ اللهُ عنه النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فأخبَرَه، فأنزَل اللهُ عزَّ وجلَّ فِيَّ -يَعْنِي نفسَه- شأنَ الخَمْرِ: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90].
وقدْ وَرَد في رِوايةٍ أُخرى أنَّ سعدًا رَضيَ اللهُ عنه قال في مُستهَلِّ هذا الحديثِ: «أُنْزِلَتْ فِيَّ أرْبَعُ آيَاتٍ»، والَّذي ذُكِر هنا ثَلاثُ آياتٍ فقطْ، وقد وَرَد عندَ مُسلمٍ روايةٌ فيه ذِكرُ الآيةِ الرَّابعةِ، قال: «كنَّا مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سِتَّةَ نفَرٍ، فقال المشْرِكون للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: اطْرُدْ هؤلاء لا يَجتَرِئون عليْنا. قال: وكُنتُ أنا وابنُ مَسعودٍ، ورجُلٌ مِن هُذَيلٍ، وبِلالٌ، ورَجُلانِ لسْت أُسَمِّيهما، فوَقَع في نَفسِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما شاءَ اللهُ أنْ يَقَعَ، فحَدَّث نفْسَه، فأنزَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]».
وفي الحديثِ: سَببُ نُزولِ آيةِ تحريمِ الخَمْرِ في سُورَةِ المائدةِ.
وفيه: سَببُ نُزولِ آيةِ الأنفالِ في أوَّلِ سُورَةِ الأنفالِ.
وفيه: سَببُ نُزولِ آيةِ الوَصِيَّةِ بالوالِدَيْنِ وعدمِ طاعتِهما في مَعصيةٍ، في سُورةِ لُقْمَانَ.
وفيه: الوصيَّةُ بثُلثِ المالِ.
وفيه: فَضْلُ سَعْدِ بنِ أبي وَقَّاصٍ رَضيَ اللهُ عنه وعُلوُّ مَنزلتِه.