باب: ومن سورة الروم1
سنن الترمذى
حدثنا نصر بن علي الجهضمي قال: حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن سليمان الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد، قال: " لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأعجب ذلك المؤمنين فنزلت: {الم غلبت الروم} [الروم: 2]- إلى قوله - {يفرح المؤمنون بنصر الله} [الروم: 4] قال: «ففرح المؤمنون بظهور الروم على فارس»: " هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، كذا قرأ نصر بن علي {غلبت الروم} [الروم: 2] "
في هذا الحديثِ يَحكي أبو سعيدٍ رضِيَ اللهُ عَنه: أنَّه "لَمَّا كان يومُ بدرٍ"، أي: لَمَّا جاءَ يومُ الملحَمةِ الكبرى في الإسلامِ التي فرَّق اللهُ بها بين الحقِّ والباطِلِ؛ فقد كانت بين المسلِمين وكُفَّارِ قُريشٍ في السَّنةِ الثَّانيةِ مِن الهجرةِ حيث خرَج المسلِمون لأخْذِ عيرِ قُريشٍ القادمةِ مِن الشَّامِ وعليها أموالُهم، وقد أخَذوا مِن قَبلُ أموالَ المسلِمين في مكَّةَ، لكنَّ أبا سُفيانَ استَطاع النَّجاةَ، وأرسَل لِقُريشٍ، فجاؤوا للقِتالِ، فالْتَقى الفَريقانِ عندَ بئرِ بدرٍ، وانتصَر المسلِمون بفضلِ اللهِ تعالى مع قِلَّةِ عددِهم غيرِ المجهَّزِ للقتالِ على كُفَّارِ قُريشٍ وصَناديدِها، بالرُّغمِ مِن عدَدِهم الكبيرِ، وتَجهيزِهم، "ظهَرَت الرُّومُ على فارِسَ"، أي: غلَبَت وانتصرَت جيوشُ بلادِ الرُّومِ، وهم أهلُ كتابٍ مِن النَّصارى على جيوشِ فارِسَ، وهم كفَّارٌ أهلُ أوثانٍ ويَعبُدون النَّارَ في ذلك اليومِ، "فأَعجَب ذلك المؤمِنين"، أي: سُرُّوا بذلك، "فنزَلَت"، أي: فقُرِئَتْ هذه الآيةُ التي نزلَتْ من قَبلُ، وليس قَصدُ أبي سعيدٍ بذلك أنَّ هذه الآياتِ نزَلتْ يومَ بدرٍ؛ لأنَّها نزَلَتْ بمكَّةَ عندَ هَزيمةِ الرُّومِ، وأنبأَ اللهُ فيها بهزيمةِ فارِسَ في المرَّةِ القادمةِ، وكان في ذلك بُشرَى للمُسلِمينَ المقهورِينَ في مَكَّةَ بأنَّ الغلبةَ ستكونُ لهم على الكُفَّارِ مِن قُريشٍ وغيرِهم؛ فلمَّا ناسَب معناها ما حدَثَ يومَ بَدرٍ مِن توافُقِ نَصرِ المسلِمينَ على المشرِكين، ونصرِ الرُّومِ على الفُرسِ المجوسِ، فكأنَّ الآيةَ أُنزِلتْ على هذا الواقعِ، وأيضًا فقد نزَلَ جبريلُ على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم يومَ بَدرٍ وأخبَرَه بخبرِ نَصرِ الرُّومِ على فارِس، "{الم * غُلِبَتِ الرُّومُ} إلى قولِه: {يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ}"، يعني قولَه تعالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم: 1 - 5].
وقولُه: {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ}، اختَلَفَت القُرَّاءُ في قِراءتِه، فقرَأَ عامَّةُ قرَّاءِ الأمصارِ: {غُلِبَتِ الرُّومُ}، بضمِّ الغينِ، بمعنى أنَّ فارسَ غلَبَت الرُّومَ، وقُرِئ: (غَلَبَتِ الرُّومُ) بفتحِ الغينِ، والَّذين قرَؤوا بفَتحِ الغينِ قالوا: نزَلَت هذه الآيةُ خَبرًا مِن اللهِ لنبيِّه صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم عن غَلبةِ الرُّومِ، وعلى قراءةِ الجمهورِ: {غُلِبَتِ الرُّومُ}، بضمِّ الغينِ فتأويل الكلامُ: غَلَبَت فارِسُ الرُّومَ في أقرَبِ الأرضِ مِن أرضِ الشَّامِ إلى أرضِ فارِسَ، {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ}، يقولُ: والرُّومُ مِن بعدِ غلَبةِ فارِسَ إيَّاهم {سَيَغْلِبُونَ} فارسَ { فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ}، أي: مِن قبلِ غلَبَتِهم فارسَ، {وَمِنْ بَعْدُ}، أي: ومن بعدِ غلَبتِهم إيَّاها، يَقْضي في خَلقِه ما يشاءُ، ويَحكُمُ ما يُريد، ويُظْهِرُ مَن شاء مِنهم على مَن أحَبَّ إظهارَه عليه، {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ}، يقول: ويومَ يَغلِبُ الرُّومُ فارسَ يفرَحُ المؤمنون باللهِ ورسولِه بنَصرِ اللهِ إيَّاهم على المشركين، ونُصرةِ الرُّومِ على فارِسَ، {يَنْصُرُ} اللهُ تعالى {مَنْ يَشَاءُ} مِن خَلقِه على مَن يَشاءُ، وهو نُصرةُ المؤمِنين على المشركين ببَدرٍ.
وأمَّا قولُه: {سَيَغْلِبُونَ} فإنَّ جمهورَ القُرَّاءِ على فتحِ الياءِ فيها، والواجبُ على قِراءةِ مَن قرأ: (غَلَبَتِ الرُّومُ) بفتحِ الغينِ أن يقرَأَ قولَه: (سَيُغْلَبُونَ) بضمِّ الياءِ، فيكونَ معناه: وهم مِن غلَبتِهم فارِسَ سيَغلِبُهم المسلِمون؛ حتَّى يَصِحَّ معنى الكلامِ. قال أبو سعيدٍ: "ففَرِح المؤمِنون بظُهورِ الرُّومِ على فارِسَ"؛ فالرُّومُ أقرَبُ إليهم؛ فهُم أهلُ كتابٍ، أمَّا الفرسُ فعُبَّادٌ للنَّارِ.