باب: ومن سورة النساء10
سنن الترمذى
حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة، عن عدي بن ثابت، قال: سمعت عبد الله بن يزيد، يحدث عن زيد بن ثابت، في هذه الآية {فما لكم في المنافقين فئتين} [النساء: 88] قال: " رجع ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فكان الناس فيهم فرقتين: فريق منهم يقول: اقتلهم، وفريق يقول: لا، فنزلت هذه الآية: {فما لكم في المنافقين فئتين} [النساء: 88] وقال: «إنها طيبة» وقال: «إنها تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الحديد»: " هذا حديث حسن صحيح، وعبد الله بن يزيد هو: الأنصاري الخطمي وله صحبة "
المدينةُ النَّبويَّةُ بُقعةٌ مِن الأرضِ مُبارَكةٌ، طَهَّرَها اللهُ مِن الأدناسِ، واختارَها لتَكونَ مُهاجَرَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وحاضنةَ دَعوتِه، ومَلاذَ الصَّالحينَ مِن عِبادِه.
وفي هذا الحديثِ يَحكي زَيدُ بنُ ثابتٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه لَمَّا خرَجَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى غزوةِ أُحُدٍ سَنةَ ثَلاثٍ مِن الهِجرةِ، بعْدَما استشارَ النَّاسَ في الخروجِ، فأشارَ عليه الصَّحابةُ -لا سيَّما مَن لم يَحضُروا غَزْوةَ بَدْرٍ- بالخُروجِ لمُلاقاةِ العَدوِّ خارجَ المدينةِ، وأشار عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلُولَ رأسُ المُنافقينَ بالبَقاءِ في المدينة والقِتالِ فيها، ولم يكُنْ هذا نُصحًا؛ بلْ حتَّى يَستطيعَ التَّهرُّبَ أثناءَ القِتالِ، فلمَّا أخَذَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ برأيِ مَن قالوا بالخُروجِ، تحيَّن ابنُ سُلَولَ فُرصةً أثناءَ سَيرِ الجيشِ، ثمَّ رجَع بمَن معه مِن المُنافقين، وكانوا حوالي ثلاثَ مِئةٍ، بما يُعادلُ ثُلثَ الجيشِ تَقريبًا، زاعمًا أنَّ سَببَ رُجوعِه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لم يأخُذْ برَأْيِه.
فلمَّا فَعَلوا ذلك قالتْ فِرقةٌ مِن الصَّحابةِ: نَقتُلُ الراجعينَ، وقالت فِرقةٌ أُخرى: لا نَقتُلُهم؛ لأنَّهم مُسلِمونَ حسَبَ ظاهِرِهم، فأنزَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ قولَه: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 88] مُنكِرًا عليهم اختلافَهم إلى فِرقتَين في الَّذينَ أرْكَسَهُم اللهُ، أي: أوقَعَهم في الخطَأِ وأضَلَّهم ورَدَّهم إلى الكفْرِ بعْدَ الإيمانِ. والمعْنى: ما لكمُ اختَلَفْتُم في شَأنِ قَومٍ نافَقوا نِفاقًا ظاهرًا وتَفرَّقْتُم فيه فِرقَتَين؟! وما لكمْ لم تُثبِتوا القولَ في كُفْرِهم واللهُ أضَلَّهم بسَببِ عِصيانِهم ومُخالَفَتِهم الرَّسولَ واتِّباعِهم الباطلَ؟!
ثمَّ أخبَرَ زَيدُ بنُ ثابتٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: إنَّ المدينةَ تُميِّزُ وتُظهِرُ شِرارَ الرِّجالِ مِن خِيارِهم، كما تُميِّزُ النارُ وَسَخَ الحديدِ، وتُبْقي الطَّيِّبَ خالصًا نَقيًّا أنْقى وأجوَدَ ممَّا كان.
وقد حكَمَ اللهُ على المنافِقين بعْدَ ذلك أنَّهم لا يُجاوِرون النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في المدينةِ إلَّا قَليلًا، فنفَتْهم المدينةُ بعْدَه عليه السَّلامُ؛ لخَوفِهم القتلَ؛ قال اللهُ تعالَى: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب: 61]، فلم يَأمَنوا فخرَجوا، فصحَّ بذلك أنَّ المدينةَ تَنفي خَبَثَها، لكنْ ليس ذلك ضَربةً واحِدةً، بل الشَّيءَ بعْدَ الشَّيءَ، حتَّى يَبْقى فيها أهْلُها الطَّيِّبون النَّاصِعون.