بناء الكعبة 1
سنن النسائي
أخبرنا محمد بن سلمة، والحارث بن مسكين، قراءة عليه وأنا أسمع، عن ابن القاسم، قال: حدثني مالك، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر الصديق، أخبر عبد الله بن عمر، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألم تري أن قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم عليه السلام» فقلت: يا رسول الله ألا تردها على قواعد إبراهيم عليه السلام؟ قال: «لولا حدثان قومك بالكفر» قال: عبد الله بن عمر لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أرى ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم عليه السلام
الكَعبةُ هي بَيتُ اللهِ الحَرامُ، وقِبلةُ المُسلِمينَ، وهي أوَّلُ بَيتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ، وقد بَناها إبراهيمُ وإسماعيلُ عليهما السَّلامُ بأمْرٍ مِنَ اللهِ تعالَى، وقد هُدِمَتْ وبُنِيَتْ أكثَرَ مِن مَرَّةٍ، وكانت قُرَيشٌ لَمَّا هَمَّتْ في الجاهِليَّةِ ببِناءِ البَيتِ وتَجديدِه جَمَعوا لِذلك مالًا مِن أطيَبِ مَكاسِبِهم، فلم يَفِ ذلك المالُ ببِناءِ البَيتِ على حَسَبِ ما كان بَناه إبراهيمُ عليه السَّلامُ، فاقتُصِرَ على قَواعِدِ إبراهيمَ، يُريدُ أنَّهم بَنَوُا البَيتَ على بَعضِ قَواعِدِ إبراهيمَ، وهي قَواعِدُ البَيتِ التي أسَّسَه بها إبراهيمُ عليه السَّلامُ، فلم تَستَوعِبْ قُرَيشٌ حين بَنَوُا البَيتَ البُنيانَ الذي كان بها كُلَّه، وتَرَكتْ شَيئًا منها خارِجًا عن بُنيانِها، وهذا البِناءُ شَهِدَه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ونَقَلَ الحِجارةَ فيه، ووَضَعتْ قُرَيشٌ الحَجَرَ الأسوَدَ في حائِطِه بحُكمِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.وكان للبيتِ رُكنانِ، وهُما اليَمانيَّانِ: الرُّكنُ اليمانيُّ والرُّكنُ الذي فيه الحَجرُ الأسودُ في الكَعبةِ المشرَّفةِ، فلَمَّا بَنَتْه قُرَيشٌ في الجاهِليَّةِ جَعَلوا له أربَعةَ أركانٍ، وحَجَزوا الحِجرَ مِن وَرائِه؛ إرادةً منهم لاستِكمالِ الطَّوافِ بالبَيتِ، فبَقيَ البَيتُ كذلك إلى أيَّامِ ابنِ الزُّبَيرِ، فهَدَمَه وبَناه على صِفةِ بُنيانِ إبراهيمَ له، فلَمَّا غَلَبَ الحَجَّاجُ على مَكَّةَ وقَتَلَ ابنَ الزُّبَيرِ، هَدَمَ البَيتَ، ثم بَناه على حَسَبِ بُنيانِ قُرَيشٍ في الجاهِليَّةِ، وجَعَلَ الحِجرَ مِن وَرائِه، فهو الآنَ مِن بُنيانِ الحَجَّاجِ.وفي هذا الحَديثِ تُخبِرُ أُمُّ المُؤمِنينَ عائِشةُ رَضيَ اللهُ عنها أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أخَبَرَ أنَّ قُرَيشًا لَمَّا بَنَوُا الكَعبةَ لم يُدخِلوا قَواعِدَ إبراهيمَ في البِناءِ، فراجَعَتْ عائِشةُ رَضيَ اللهُ عنها النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وسألَتْه: لِمَ لم يَهدِمْها ويَبْنِها على قَواعِدِ إبراهيمَ؟ فقالَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "لولا حِدْثانُ قَومِكِ بالكُفرِ" والمَعنى: لولا قُربُ عَهدِهم بالكُفرِ ومَخافةُ إنكارِ قُلوبِهم، لَأعادَ بِناءَ الكَعبةِ، ولَأدخَلَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الحِجر في البَيتِ.قال عَبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما: "فوَاللهِ لَئِنْ كانت عائِشةُ سَمِعتْ ذلك مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ" ليس هذا شَكًّا مِنِ ابنِ عُمَرَ في صِدقِ عائِشةَ، لكِنْ يَقَعُ في كَلامِ العَرَبِ كَثيرًا صُورةُ التَّشكيكِ، والمُرادُ التَّقريرُ واليَقينُ. "ما أرى رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تَرَكَ استِلامَ الرُّكنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَليانِ الحِجرَ"، ويُطلَقُ عليهما: الرُّكنُ الشَّاميُّ، والرُّكنُ العِراقيُّ، والمُرادُ أنَّه يَترُكُ مَسحَهما باليَدِ والتَّبَرُّكَ بهما، عَكسَ ما يَستَلِمُ به الرُّكنَيْنِ الآخَرَيْنِ الحَجَرَ الأسوَدَ، والرُّكنَ اليَمانيَّ، "إلَّا أنَّ البَيتَ لم يُتَمَّمْ على قَواعِدِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ" يَعني أنَّ الرُّكنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَليانِ الحِجرَ ليسا برُكنَيْنِ، وإنَّما هُما بَعضُ الجِدارِ الذي بَنَتْه قُرَيشٌ، فلذلك لم يَستَلِمْهما النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، حيث لم يُتَمَّما على الأساسِ الذي بَنى عليه إبراهيمُ عليه السَّلامُ البَيتَ. "إرادةَ أنْ يَستَوعِبَ الناسُ الطَّوافَ بالبَيتِ كُلِّه مِن وَراءِ قَواعِدِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ" بمَعنى أنَّ الحِجرَ إنَّما جُعِلَ لكي يُرشِدَ الناسَ إلى أنَّ الطَّوافَ بالبَيتِ لا يَكونُ إلَّا مِن حَولِه وخارِجَه
وفي الحَديثِ: دَليلٌ على ارتِكابِ أيسَرِ الضَّررَيْنِ؛ دَفعًا لِأكبَرِهما؛ لِأنَّ قُصورَ البَيتِ أيسَرُ مِنَ افتِتانِ طائِفةٍ مِنَ المُسلِمينَ ورُجوعِهم عن دِينِهم
وفيه: أنَّ النُّفوسَ تُساسُ بما تُساسُ إليه في الدِّينِ مِن غَيرِ الفَرائِضِ بأنْ يُترَكَ ويُرفَعَ عنِ النَّاسِ ما يُنكِرونَ مِنها