جامع ما جاء في القرآن 8

سنن النسائي

جامع ما جاء في القرآن 8

أخبرني عمرو بن منصور، قال: حدثنا أبو جعفر بن نفيل قال: قرأت على معقل بن عبيد الله، عن عكرمة بن خالد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة فبينا أنا في المسجد جالس إذ سمعت رجلا يقرؤها يخالف قراءتي فقلت له: من علمك هذه السورة؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: لا تفارقني حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته فقلت: يا رسول الله، هذا خالف قراءتي في السورة التي علمتني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ يا أبي». فقرأتها، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحسنت». ثم قال للرجل: «اقرأ». فقرأ فخالف قراءتي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحسنت». ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبي إنه أنزل القرآن على سبعة أحرف كلهن شاف كاف» قال أبو عبد الرحمن: معقل بن عبيد الله ليس بذلك القوي

كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يُعلِّمُ أصحابَه القُرآنَ حتَّى إتقانِه، وكان يَقرَؤُه عليهم بالقِراءاتِ والأوْجُهِ الَّتي تُوافِقُ لَهَجاتٍ عِدَّةً، كُلُّها عَربيَّةٌ، تَخفِيفًا وتَيسيرًا وتَسهيلًا على المُسلِمينَ
وفي هذا الحديثِ يَرْوي أُبَيُّ بنُ كعبٍ رَضِي اللهُ عنه أنَّه كان جالسًا في المسجدِ النَّبويِّ، ولم يكُنْ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم حاضرًا حينئذٍ، وكان أُبَيٌّ رَضِي اللهُ عنه مِن حفَظةِ كتابِ اللهِ تعالَى، فدخَل رجلٌ يُصلِّي، فسَمِعه أُبَيٌّ رَضِي اللهُ عنه يَقرَأُ القرآنَ بقِراءةٍ أنكَرَها عليه، أي: لم يكُنْ أُبَيٌّ رَضِي اللهُ عنه يَعرِفُها، ولم يَسبِقْ أنْ سَمِعها مِن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، ثمَّ دخَل رجُلٌ آخَرُ فقَرَأ قِراءةً مُختلِفةً عن قِراءةِ الرَّجلِ الأوَّلِ، فلمَّا انتَهَوا كلُّهم مِن الصَّلاةِ دَخَلوا جميعًا على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم في حُجرةٍ مِن حُجراتِه، فقال أُبَيٌّ رَضِي اللهُ عنه للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: إنَّ هذا الرَّجلَ قَرَأ قِراءةً أنْكَرتُها عليه، حيث خالَفَت قِراءتُه قِراءتي، ودخَل رجُلٌ آخَرُ، فقَرأ قِراءةً غيرَ قِراءةِ الأوَّلِ، فأمَرَهما رسولُ الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم بالقراءةِ حتَّى يَسمَعَ ويَتأكَّدَ مِن كونِ قِراءتِهما صَحيحةً أو خطأً، فقَرَأ الرَّجلانِ، فحسَّن قِراءتَهما وأخبَرَ أنَّ كِلاهُما مُحسِنٌ، أو قال لكلِّ واحدٍ منهما: أحسَنْتَ، فلمَّا سَمِع أُبَيُّ بنُ كَعبٍ رَضِي اللهُ عنه تَحسينَ النَّبيِّ  صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم لقِرءاتِهما خَطَر في قلْبِه مِن التَّكذيبِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم واعتَرَتْه الحَيرةُ والدَّهشةُ، ما لم يَقدِرْ على وصْفِه، ولم يَعهَدْ بمِثلِه في الجاهليَّةِ حين كان على الضَّلالةِ والكفْرِ الَّتي هي أَولى بهذا النَّوعِ مِن التَّكذيبِ، والجاهليَّةُ هي: المدَّةُ الَّتي كان النَّاسُ فيها على الشِّركِ قبْلَ مَبعَثِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، وسُمِّيَت بها لكَثْرةِ جَهالاتِهم
فلمَّا رأى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ما حَصَل لأُبَيٍّ رَضِي اللهُ عنه مِن وَسوسةِ الشَّيطانِ ونَزْغتِه، ضَرَب صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم بيَدِه الشَّريفةِ في صَدرِه تَثبيتًا له، فجرَى وسال عرَقُ أُبَيٍّ رَضِي اللهُ عنه مِن جَميعِ بدَنِه، وكأنَّما يَنظُرُ إلى اللهِ »فَرَقًا»، أي: خوْفًا وخَجَلًا ممَّا أصابَه مِن وَسوسةِ الشَّيطانِ، وهذا يدُلُّ على أنَّها كانت نَزْغةً مِن الشَّيطانِ، ثمَّ زالت في الحالِ حِين ضرَبَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم بيَدِه في صَدرِه، ففاضَ عرَقُه
وهنا أخبَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أُبَيًّا -تَسكينًا له وتَبيينًا- أنَّ اللهَ تعالَى أوْحى إليه أنْ يَقرَأ القُرْآنَ على حرْفٍ، أي: على وجْهٍ واحدٍ، »فردَدْتُ إليه»، أي: إلى اللهِ تعالَى بواسطةِ جِبريلَ عليه السَّلامُ، وهو الملَكُ الموكَّلُ بالوحْيِ، «أنْ هوِّنْ»، أي: طلَبَ منه سُبحانه أنْ يُسهِّلَ ويُيسِّرَ قِراءةَ القرآنِ على أُمَّةِ الإسلامِ، فالنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يُراجِعُ ربَّه عزَّ وجلَّ في التَّخفيفِ على أُمَّتِه بمِثلِ ما جاء في التَّخفيفِ في الصَّلاةِ، فردَّ اللهُ سُبحانه إلى نَبيِّه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم في المرَّةِ الثَّانيةِ: «اقرَأْه على حَرفينِ»، وفي المرَّةِ الثَّالثةِ هوَّن اللهُ على الأُمَّةِ بقِراءتِه على سَبعةِ أحرُفٍ، والمعنى: أنَّ القرآن نزَلَ بسَبعةِ أوجُهٍ، أو سَبْعِ لَهَجاتٍ، والمرادُ منها التَّسهيلُ والتَّيسيرُ، وقيل: أُنزِلَ القرآنُ أوَّلًا بلِسانِ قُريشٍ ومَن جاورَهم مِن العربِ الفُصحاءِ، ثُمَّ أُبيحَ للعربِ أنْ يَقْرؤوه بلُغاتِهم الَّتي جرَتْ عادتُهم باستعمالِها على اختِلافِهم في الألفاظِ والإعرابِ، ولم يُكلَّفْ أحدٌ منهم الانتقالَ مِن لُغتِه إلى لُغةٍ أُخرى للمَشقَّةِ، ولِمَا كان فيهم مِن الحَمِيَّةِ، ولطلَبِ تَسهيلِ فَهْمِ المرادِ، وهذه الإباحةُ المذكورةُ لم تقَعْ بالتَّشهِّي بحيثُ يُغيِّرُ كلُّ أحدٍ الكلمةَ بمُرادفِها في لُغتِه، بلِ المُراعَى في ذلك السَّماعُ مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم
ثمَّ قال رَبُّ العزَّةِ لنَبيِّه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: »لك بكلِّ رَدَّةٍ رَدَدْتُكَها»، أي: لك في كلِّ رَجعةٍ تَسألُ فيها التَّيسيرَ والتَّسهيلَ على أُمَّتِكَ، وردَدْتُ عليك فيها، «مَسألةٌ»، أي: دَعوةٌ مُستَجابةٌ، »تَسألُنِيها»، أي: يَنْبغي لك أنْ تَسألَها، وأنَّك لا تُخَيَّبُ أو تُرَدُّ فيها. فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: «اللَّهمَّ اغفِرْ لأمَّتي، اللَّهمَّ اغفِرْ لأمَّتي» مرَّتينِ، وأخَّر صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم المسألةَ الثَّالثةَ إلى يومٍ القيامة، وهي الشَّفاعةُ الكبرى، حيث يَحتاجُ إلى شَفاعتِه الخَلقُ كلُّهم حِين يقولونَ: نَفْسي، نفْسي، حتَّى نَبيُّ اللهِ إبراهيمُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم
وفي الحديثِ: تَيسيرُ اللهِ على الأمَّةِ، ورحمتُه بهم
وفيه: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أفضلُ الأنبياء والخَلْقِ أجمعين
وفيه: رِفعةُ إبراهيمَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم على سائرِ الأنبياءِ، غيرَ نبيِّنا صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم
وفيه: شَفقتُه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم على أمَّتِه
وفيه: مدَى عِنايةِ الصَّحابةِ بالقُرْآنِ، والذَّبِّ عنه، والمُحافظةِ عليه وعلى لَفظِه، كما سَمِعوه مِن غيرِ عُدولٍ عنه
وفيه: بَيانُ أنَّ القرآنَ أُنزِلَ على سَبعةِ أحرُفٍ
وفيه: العفوُ عن نَزَغاتِ الشَّيطانِ، وعدمُ المَؤاخذةِ عليها
وفيه: بيانُ كَرامةِ أُبَيٍّ رَضِي اللهُ عنه حيث لم يَتسلَّطْ عليه الشَّيطانُ، فيُغْويَه كما أغْوى كثيرًا ممَّن كتَبَ اللهُ عليهم الشَّقاءَ بالتَّمادي على التَّكذيبِ، بلْ ألْهَمَه اللهُ تعالَى التَّوبةَ بضَرْبِه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم في صَدرِه، ودَعوتِه له.
وفيه: ثُبوتُ الشَّفاعةِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم