جهد المقل 4
سنن النسائي
أخبرنا الحسين بن حريث، قال: أنبأنا الفضل بن موسى، عن الحسين، عن منصور، عن شقيق، عن أبي مسعود، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأمرنا بالصدقة فما يجد أحدنا شيئا يتصدق به حتى ينطلق إلى السوق، فيحمل على ظهره، فيجيء بالمد فيعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إني لأعرف اليوم رجلا له مائة ألف ما كان له يومئذ درهم»
كان الصَّحابةُ رَضيَ اللهُ عنهم سُرْعانَ ما يَستَجيبون لأوامرِ الله ورسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ويَتكلَّفُ كلُّ فردٍ منهم ما يستطيعُ بَذْلَه وإنفاقَه
وفي هذا الحديثِ يَروي أبو مسعودٍ الأنصاريُّ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه لَمَّا أمَر النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالصَّدقةِ والتطَوُّعِ مِن المالِ الخاصِّ، كان أحَدُهم يَنطلِقُ إلى السُّوقِ فيَحمِلُ للغَيرِ على ظَهرِه -بقَصدِ التكسُّبِ حتَّى يُخرِجَ الصدَقةَ- فيُصيبُ المُدَّ، وهو رطلٌ وثلثٌ مِن الطَّعامِ، مُقابِلَ أُجرتِه؛ ليَتصدَّقَ بها، وهذا إشارةٌ إلى ما كان عليه حالُهم مِن الشِّدَّةِ والفَقرِ، ورغْمَ ذلك كانوا يَحرِصون على العَملِ والتصَدُّقِ بالقَليلِ الَّذي يخرجُ لهم مِن أُجرةِ العَملِ
ثمَّ قال: (وإنَّ لِبعضِهم اليومَ لَمِئةَ ألْفٍ)، أشار بذلك إلى ما كان عليه الصَّحابةُ في عَهدِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن قِلَّةِ الشَّيءِ، وإلى ما صاروا إليه بعْدَه مِن التوسُّعِ؛ لكَثرةِ الفُتوحِ، ومع ذلك فكانوا في العهدِ الأوَّلِ يَتصَدَّقون بما يَجِدون ولو أصابَتْهمُ المشَقَّةُ في ذلك
وفي رِوايةِ النَّسائيِّ: (إنِّي لَأعرِفُ اليَومَ رجُلًا له مِئةُ ألْفٍ، ما كان له يَومَئذٍ دِرهَمٌ)، أي: في اليَومِ الذي كان يَحمِلُ فيه بالأُجرةِ؛ لأنَّهم كانوا فُقراءَ في ذلك الوَقتِ، واليَومَ هم أغنياءُ، وهذا يُحمَلُ إمَّا على أنَّه مِن التحدُّثِ بنِعمةِ اللهِ وفضْلِه عليهم بعْدَ أنْ أغْناهم، وإمَّا على بعضِ ما أصاب النَّاسَ مِن التغيُّرِ والحِرصِ على الدُّنيا، فبَعْدَ أنْ كانوا فُقراءَ يَحرِصون على الصَّدقةِ، أصبَحوا أغنياءَ، ولكنَّهم لا يَتصَدَّقون بمِثلِ ما كانوا يَتصَدَّقون به قبْلَ ذلك
وقال أبو وائلٍ شَقِيقُ بنُ سَلَمةَ راوي الحديثِ عن أبي مَسعودٍ في روايةِ البُخاريِّ: (قال: ما نُراهُ إلَّا نفْسَه)، والمعنى: ما أظُنُّ أبا مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه أراد بذلك البعضِ إلَّا نفْسَه؛ فإنَّه كان مِن الأغنياءِ
وفي الحديثِ: الحثُّ على الصَّدقةِ بما قَلَّ وما جَلَّ
وفيه: ألَّا يحتقِرَ الإنسانُ ما يَتصدَّقُ به
وفيه: ما كان عليه السَّلفُ مِن التَّواضعِ، والحِرصِ على الخَيرِ، واستِعمالِهم أنفُسَهم في المِهَنِ والخِدمةِ