حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه 47
مسند احمد
حدثنا عفان، حدثنا وهيب، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن مجاهد، عن إبراهيم يعني ابن الأشتر، أن أبا ذر، حضره الموت وهو بالربذة فبكت امرأته، فقال: ما يبكيك؟ قالت: أبكي أنه لا يد لي بنفسك، وليس عندي ثوب يسعك كفنا. فقال: لا تبكي، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وأنا عنده في نفر يقول: "ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض، يشهده عصابة من المؤمنين " قال: فكل من كان معي في ذلك المجلس مات في جماعة وفرقة، فلم يبق منهم غيري، وقد أصبحت بالفلاة أموت، فراقبي الطريق فإنك سوف ترين ما أقول، فإني والله ما كذبت ولا كذبت. قالت: وأنى ذلك وقد انقطع الحاج؟ قال: راقبي الطريق. قال: فبينا هي كذلك إذا هي بالقوم تخد بهم رواحلهم كأنهم الرخم، فأقبل القوم حتى وقفوا عليها فقالوا: ما لك؟ قالت: امرؤ من المسلمين تكفنونه وتؤجرون فيه قالوا: ومن هو؟ قالت أبو ذر. ففدوه بآبائهم وأمهاتهم، ووضعوا سياطهم في نحورها يبتدرونه، فقال: أبشروا، أنتم النفر الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكم ما قال، أبشروا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من امرأين مسلمين هلك بينهما ولدان أو ثلاثة فاحتسبا وصبرا فيريان النار أبدا " ثم قد أصبحت اليوم حيث ترون ولو أن ثوبا من ثيابي يسعني، لم أكفن إلا فيه، فأنشدكم الله أن لا يكفنني رجل منكم كان أميرا أو عريفا أو بريدا. فكل القوم كان قد نال من ذلك شيئا إلا فتى من الأنصار كان مع القوم، قال: أنا صاحبك، ثوبان في عيبتي من غزل أمي، وأجد ثوبي هذين اللذين علي. قال: أنت صاحبي فكفني (1)
كان الصَّحابيُّ الجَليلُ أبو ذَرٍّ الغِفاريُّ رَضِيَ اللهُ عنه من خيرةِ أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكان رَضِيَ اللهُ عنه زاهدًا صادِقَ اللَّهجةِ، قال فيه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يَرحَمُ اللهُ أبا ذَرٍّ، يَعيشُ وَحدَه، ويَموتُ وَحدَه، ويُحشَرُ وَحدَه. وقد تَحَقَّقَ مِصداقُ ذلك؛ فقد تَرَكَ أبو ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه المَدينةَ وانتَقَل للعَيشِ في مَكانٍ خارِجَ المَدينةِ يُسَمَّى الرَّبَذةَ، وماتَ فيها، وفي هذا الحَديثِ تَحكي أمُّ ذَرٍّ زَوجةُ أبي ذَرٍّ قِصَّةَ مَوتِ أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، فتَقولُ: لمَّا حَضَرَت أبا ذَرٍّ الوفاةُ، أي: لمَّا قَرُبَ ودَنا منه الأجَلُ، بَكَيتُ، فقال لها أبو ذَرٍّ: ما يُبكيكِ؟ فقالت: ما لي لا أبكي، أي: كَيف لا أبكي وأنتَ تَموتُ بفَلاةٍ منَ الأرضِ، أي: بمَكانٍ قَفرٍ صَحراءَ ليس فيها أحَدٌ، وليس عِندي ثَوبٌ يَسَعُك كَفَنًا؟! فلمَّا سَمِعَ أبو ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه كَلامَ امرَأتِه قال لها: لا تَبكي وأبشِري؛ وذلك أنِّي سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ لنَفَرٍ أنا فيهم -والنَّفَرُ: الجَماعةُ منَ الرِّجالِ ما بَينَ الثَّلاثةِ إلى العَشَرةِ-: ليَموتَنَّ رَجُلٌ منكُم بفلاةٍ منَ الأرضِ، أي: بمَكانٍ خالٍ قَفرٍ، يَشهَدُه عِصابةٌ، أي: جَماعةٌ منَ المُؤمنينَ. ثمَّ بَيَّن أبو ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ أولئِكَ النَّفرَ الذينَ قال فيهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الحَديثَ: ليس من أولئِك النَّفَرِ أحَدٌ إلَّا وقد هَلكَ، أي: ماتَ في قَريةِ جَماعةٍ، يَعني: أنَّهم ماتوا في قُراهم عِندَ جَماعَتِهم، ولم يَبقَ منهم أحَدٌ إلَّا أنا، فأنا الذي أموتُ بالفلاةِ، واللهِ ما كَذَبتُ ولا كُذِبتُ! يَحلِفُ أنَّه ما كَذَبَ فيما قاله، ولا كَذَبَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما قال من أنَّه سَيَموتُ شَخصٌ بفلاةٍ، وأنَّه سَيَمُرُّ عليه جَماعةٌ، فقال أبو ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه لزَوجَتِه: أبصِري الطَّريقَ، أي: فلعَلَّك تَجِدينَ جَماعةً يَمُرُّونَ علينا، فقالت: وأنَّى، وقد ذَهَبَ الحاجُّ وانقَطَعَتِ الطُّرُق، أي: كَيف ذلك وقد أكمَل الحُجَّاجُ حَجَّهم ورَجَعوا إلى بُلدانِهم وليس في الطَّريقِ أحَدٌ يُسافِرُ في هذه الأيَّامِ؟! فقال لها: اذهَبي فتَبَصَّري، وذلك يَقينًا من أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه بحَديثِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قالت أمُّ ذَرٍّ: فكُنتُ أجيءُ إلى كَثيبٍ، وهو الرَّملُ المُستَطيلُ المُحدَودِبُ، فأتَبَصَّرُ، أي: أنظُرُ لعَلَّ أحَدًا يَأتي، ثمَّ أرجِعُ إلى أبي ذَرٍّ فأُمَرِّضُه، أي: أقومُ بتَمريضِه والعِنايةِ به، قالت: فبَينَما أنا كَذلك إذا أنا برِجالٍ على رِحالِهم، أي: على إبِلِهم فيها الأحمالُ، كأنَّهمُ الرَّخمُ جَمعُ رَخَمةٍ، وهو نَوعٌ منَ الطَّيرِ يَأكُلُ العَذِرةَ، سُمِّيَ بذلك لضَعفِه عنِ الاصطيادِ، فشَبَّهَت هؤلاء القَومَ بأنَّهم ضِعافٌ، فأقبلوا حتَّى وقَفوا على أمِّ ذَرٍّ، وقالوا: ما لكِ أَمَةَ اللهِ؟ فقالت لهم: امرُؤٌ منَ المُسلمينَ يَموتُ، تُكَفِّنونَه؟ أي: هل لكم في أن تَقوموا بتَكفينِه، فقالوا: من هو؟ فقالت: أبو ذَرٍّ. فقالوا: صاحِبُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟! فقالت: نَعَمْ. فلمَّا عَرَف القَومُ أنَّه أبو ذَرٍّ، فدَّوه بآبائِهم وأمَّهاتِهم، أي: قالوا: نَفديك بآبائِنا وأمَّهاتِنا، ثمَّ إنَّهم أسرَعوا إليه فدَخَلوا عليه، فرَحَّبَ بهم أبو ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، وقال: إنِّي سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ لنَفرٍ أنا فيهم: ليَموتَنَّ منكُم رَجُلٌ بفلاةٍ منَ الأرضِ يَشهَدُه عِصابةٌ منَ المُؤمنينَ، وليس من أولئك النَّفرِ أحَدٌ إلَّا هَلكَ في قَريةٍ وجَماعةٍ، وأنا الذي أموتُ بفَلاةٍ، ثمَّ قال لهم: هل تَسمَعوني؟ إنَّه لو كان عِندي ثَوبٌ يَسَعُني كَفنًا لي أو لامرَأتي لم أُكَفَّنْ إلَّا في ثَوبٍ لي أو لها، أي: إذا كان مَعَه ذلك الثَّوبُ لم يَطلُبْ من أحَدٍ أن يُكَفِّنَه في غَيرِ ثَوبِه! ثمَّ قال لهم: هل تَسمَعوني؟ إنِّي أُشهِدُكم، أي: أستَحلِفُكُم باللهِ ألَّا يُكَفِّنَني رَجُلٌ منكم كان أميرًا أو عَريفًا، وهو القَيِّمُ بأمورِ القَبيلةِ أوِ الجَماعةِ منَ النَّاسِ يَلي أمورَهم، أو بَريدًا، أي: رَسولًا، أو نَقيبًا، وهو كالعَريفِ على القَومِ المُقدَّمِ عليهم، الذي يَتَعَرَّفُ أخبارَهم، ويُفتِّشُ عن أحوالِهم؛ فليس أحَدٌ منَ القَومِ إلَّا قارَف بَعضَ ذلك، أي: اكتَسَبَ ووقَعَ في بَعضِ تلك الأعمالِ التي ذَكَرَها أبو ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، إلَّا فتًى منَ الأنصارِ، فقال الفتى: يا عَمِّ. يَعني: أبا ذَرٍّ، أنا أكَفِّنُك، لم أُصِبْ ممَّا ذَكَرتَ شَيئًا، أكَفِّنُك في رِدائي هذا، وفي ثَوبَينِ في عَيبَتي، أي: مُستَودَعِ ثيابي الذي أضَعُ فيه الثِّيابَ، من غَزلِ أمِّي حاكَتْهما، أي: خاطَتْهما لي، فكَفَّنَه ذلك الفتى الأنصاريُّ، وكان منَ النَّفرِ الذينَ شَهدوا مَوتَ أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه: حُجرُ بنُ الأدبَرِ، وهو حُجرُ بنُ عَديٍّ له صُحبةٌ، ومالِكُ بنُ الأشتَرِ، وهو تابعيٌّ نَزَل الكوفةَ، في نَفرٍ كُلُّهم يَمانٍ. أي: منَ اليَمَنِ.
وفي الحَديثِ مُعجِزةٌ من مُعجِزاتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ حَيثُ أخبَرَ بما يَحصُلُ لأبي ذَرٍّ.
وفيه فَضلُ أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه