حديث أبي موسى الأشعري 60
مستند احمد
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن مثل ما بعثني الله عز وجل به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب الأرض، فكانت منه طائفة قبلت فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله عز وجل بها ناسا فشربوا فرعوا وسقوا وزرعوا وأسقوا، وأصابت طائفة منها أخرى. إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله عز وجل ونفعه الله عز وجل بما بعثني به، ونفع به فعلم وعلم. ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله عز وجل الذي أرسلت به»
كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أحسنَ الناسِ تَعليمًا؛ فكان كَثيرًا ما يَستخدِمُ ضَرْبَ الأمْثلةِ البَليغةِ الوَجيزةِ الَّتي بها تَصِلُ بها المعلومةُ وتَرسَخُ في الأذهانِ
وفي هذا الحَديثِ يُشبِّهُ لنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الهُدى والدَّلالاتِ المُوصِلةَ إلى اللهِ، والعِلمَ الشَّرعيَّ المُستمدَّ مِن كِتابِ الله تعالَى وسُنَّةِ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ بالمَطَرِ الغزيرِ الَّذي يَنزِلُ على أنواعٍ مُختلفةٍ مِن الأرضِ
أوَّلُها: الأرضُ الخِصبةُ النَّقيَّةُ مِن الحَشراتِ والدِّيدانِ الَّتي تَفتِكُ بالزَّرعِ، فهذه تَقبَلُ الماءَ، فتَشرَبُ مِياهَ الأمطارِ، فتُنبِتُ النَّباتَ الكثيرَ رَطبًا ويابسًا، ومَثَلُها مَثَلُ العالِمِ المُتفقِّهِ في دِينِ اللهِ، العاملِ بعِلمِه، المُعلِّمِ لغيرِه، وهذا هو الطَّرَفُ الأعلى في الاهتداءِ
وثانيها: الأرضُ المُجدِبةُ، المُمسِكةُ للماءِ، وهي الأرضُ الصُّلبةُ الَّتي لا تُنبِتُ زَرعًا، فكانت بمَثابةِ خزَّاناتٍ ضَخمةً، تَحفَظُ الماءَ، وتمُدُّ به غيرَها، فيَنتفِعُ بها النَّاسُ، فيَشرَبون ويَسقُون مَواشيَهم، ويَزرَعون الأراضيَ الخِصبةَ بمائِها، فهي وإنْ لم تَنتفِعْ بالغيثِ في نفْسِها، فإنَّها نفَعَتْ غيرَها؛ مِن الإنسانِ، والحيوانِ، والأراضي الأُخرى، وذلك مَثَلُ ناسٍ لهم قُلوبٌ حافظةٌ، لكنْ لَيست لهم أذهانٌ ثاقبةٌ، ولا رُسوخَ لهم في العِلمِ يَستنبِطون به المعانيَ والأحكامَ، وليس لهم اجتهادٌ في العمَلِ به، فهمْ يَحفَظونه حتى يَجِيءَ أهلُ العلمِ للنَّفعِ والانتفاعِ، فيَأخُذوه منهم فيُنتفَع به، فهؤلاء نَفَعوا بما بَلَغَهم. وقيل: مَثَلُها مَثَلُ العالم الَّذي يعلِّمُ غيرَه، ولا يعمَلُ بعلمِه؛ فهو كالشَّمعةِ تُضيءُ لغيرِها، وتُحرِقُ نفْسَها
وثالثُها: قِيعانٌ، جمْعُ قاعٍ، وهي الأرضُ المتَّسِعةُ، وقيل: المَلْساءُ، وقيل: التي لا نَباتَ فيها، وهذا هو المرادُ في الحديثِ؛ الأرضُ السِّباخُ الَّتي لا تُنبِت زَرعًا، ولا تُمسِكُ ماءً، فهي لم تَنتفِعْ بذلك المطَرِ في نفْسِها، ولم تَنفَعْ غيرَها به؛ لاستِواءِ سَطْحِها وعدَمِ إنباتِها؛ فهي شَرُّ أقسامِ الأرضِ وأخبَثُها، ومَثَلُها مَثَلُ المسلِمِ الجاهلِ، أو المسلِمِ العالمِ الَّذي لم يَعمَلْ بعِلمِه، ولم يُعلِّمْه غيرَه، وهو المقصودُ بقولِه: «مَن لم يَرفَعْ بذلك رأسًا»، أو الكافرُ الَّذي لم يَدخُلْ في الدِّينِ أصلًا، وهو المقصودُ بقولِه: «ولم يَقبَلْ هدَى اللهِ»
وفي الحديثِ: فضْلُ مَن عَلِمَ وعَمِلَ وعلَّم.وفيه: ذمُّ الإعراضِ عن العِلمِ