حديث المغيرة بن شعبة 29
مستند احمد
حدثنا هشام بن عبد الملك أبو الوليد، حدثنا أبو عوانة، عن عبد الملك، عن وراد كاتب المغيرة، عن المغيرة بن شعبة، قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أتعجبون من غيرة سعد، فوالله لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما [ص:105] بطن، ولا شخص أغير من الله، ولا شخص أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث الله المرسلين مبشرين ومنذرين، ولا شخص أحب إليه مدحة من الله، من أجل ذلك وعد الله الجنة»
[ص:106]
وضَعَ الشَّرعُ حُدودًا للكبائرِ، وبيَّنَ ضَوابِطَها وشُروطَها التي تُقامُ بها، ولا تُقامُ دونَ تَوفُّرِها، وعلى ذلك فيَنبغي للمُسلِمِ الوُقوفُ عندَ هذه الأمورِ، فيُطبِّقُها كما أمَرَ اللهُ سُبحانَه ورسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولا تَرجِعُ إلى المَشاعِرِ الإنسانيَّةِ والرَّغَباتِ البَشريَّةِ منَ الحُبِّ، والكُرهِ، والغَيرةِ، وغيرِ ذلك
وفي هذا الحَديثِ يَروي المُغيرةُ بنُ شُعبةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ سَعدَ بنَ عُبَادةَ رَضيَ اللهُ عنه -لِشِدَّةِ غَيرَتِه- أخبَرَ أنَّه لو رَأى رجُلًا مع امرأتِه يَزني بها، لَضَرَبه بحدِّ السَّيفِ القاطِعِ، «غيْرَ مُصْفَحٍ»، أي: غيرَ ضارِبٍ بِصَفحِ السَّيفِ وهو جانِبُه- لإرهابِه وتَخويفِه فقط، بَل يَضرِبُه بحدِّه، وهذا كنايةٌ عن قتلِه، ومُرادُه: أنَّه لن يَنتظِرَ إلى حينِ حُضورِ أو إحضارِ شُهودٍ ليَشهَدوا تِلكَ الوَقعةَ الشَّنيعةَ، ثُمَّ يُقامَ بهمُ الحَدُّ، وسببُ قولِ سعدٍ ذلك ما ورَدَ عندَ أحمَدَ من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما: «لمَّا نزَلَتْ هذه الآيةُ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4]، قالَ سعدُ بنُ عُبادةَ -وهو سيِّدُ الأنصارِ-: أهكذا أُنزِلَتْ يا رسولَ اللهِ؟» الحديثَ، وفيه: «واللهِ يا رسولَ اللهِ، إنِّي لَأعلَمُ أنَّها حقٌّ، وأنَّها منَ اللهِ، ولكنِّي قد تَعجَّبتُ أنِّي لو وَجدتُ لَكاعًا قد تَفخَّذَها رَجلٌ، لم يَكُنْ لي أنْ أَهِيجَهُ ولا أُحَرِّكَه حتَّى آتِيَ بأَربَعَةِ شُهَداءَ، فواللهِ لا آتِي بهِم حتَّى يَقضِيَ حاجَتَه»، وبيَّنَ أنَّه سيُعاجِلُه بالقَتلِ، وكانَ ذلك قبلَ نُزولِ آيةِ المُلاعَنةِ
فبَلَغ ذلك رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالَ لأصحابِه: «أَتَعْجَبُونَ من غَيْرَةِ سَعْدٍ؟!» والغَيرةُ: الحَميَّةُ الَّتي تَعتري الإنسانَ عندما يَرَى في أهلِه ما لا يَرضَى. وأكثَرُ ما تُراعى في النِّساءِ، وجَعَلَ اللهُ سُبحانَه هذه القوَّةَ في الإنسانِ سببًا لصيانةِ الماءِ وحِفظًا للإنسانِ، ولصيانةِ كلِّ ما يَلزَمُ الإنسانَ صيانتُه، ثُمَّ أخبَرَهم أنَّه أشَدُّ غَيرةً من سَعدٍ، وأنَّ اللهَ تَعالَى الَّذي شَرَعَ هذا الحُكمَ هو أشدُّ غَيرةً على مَحارِمِه مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ومِن سَعدٍ، والغَيرةُ تَتضمَّنُ البُغضَ والكَراهةَ لهذا الفِعلِ، فمِن أجلِ غَيرتِه سُبحانَه وبسببِها «حرَّمَ الفواحِشَ»، وهي كلُّ خَصلةٍ قبيحةٍ مِنَ الأقوالِ والأفعالِ، وقد حرَّمَ عزَّ وجلَّ «ما ظَهَرَ منها وما بَطَنَ» فكلُّها ممنوعةٌ، سواءٌ وقَعَت في الظَّاهرِ ورآها النَّاسُ، أو وقَعَت بعيدًا عن أعيُنِ النَّاسِ؛ لأنَّ اللهَ يراها، فهو سُبحانَه يَغارُ إذا انتُهكِت مَحارِمُه
وغَيرةُ اللهِ تَعالَى من جِنسِ صِفاتِه التي يَختصُّ بها؛ فهي ليست مُماثِلةً لغَيرةِ المَخلوقِ، بَل هي صِفةٌ تَليقُ بعَظَمتِه، ومن خصائصِه التي لا يُشارِكُه الخَلقُ فيها، وهي من صِفاتِ الكَمالِ المحمودةِ عَقلًا وشَرعًا وعُرفًا وفِطرةً، وأضدادُها مذمومةٌ عَقلًا وشَرعًا وعُرفًا وفِطرةً؛ فإنَّ الذي لا يَغارُ بَل تَستوي عندَه الفاحِشةُ وتركُها؛ مذمومٌ غايةَ الذمِّ
ثُمَّ أخبَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه «لا أَحَدَ أحبُّ إليه العُذْرُ مِنَ اللهِ»، أيِ: الحُجَّةُ والإعذَارُ، وقيلَ: التَّوبةُ والإنابةُ، «ومِن أجْلِ ذلك بَعَث المبشِّرين والمُنذِرِينَ»، كما في قولِه تَعالَى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، «ولا أَحَدَ أحبُّ إليه المِدْحَةُ مِنَ اللهِ»، وهو الثَّناءُ بذِكرِ أوصافِ الكَمالِ والإفضالِ، «ومِن أجْلِ ذلك وَعَد اللهُ الجنَّةَ» عِبادَه إن هم أطاعوه، وأثنَوا عليه بما هو أهلُه، ونزَّهوه عمَّا لا يَليقُ به سُبحانه
وفي الحديثِ: أنَّ الغَيرَةَ وغيرَها مِنَ الصِّفاتِ المحمودةِ - مَحكومةٌ ومُقيَّدةٌ بحُكمِ الشَّرعِ
وفيه: إثباتُ صِفةِ الغَيرةِ لله سُبحانَه كما يَليقُ به
وفيه: أنَّه لا يُحكَمُ بالقتلِ إلَّا بعدَ ثُبوتِ المُوجِبِ له