حديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم 27
مستند احمد
حدثنا هشيم، أخبرنا سيار، وأخبرنا مغيرة، وأخبرنا داود، عن الشعبي، وإسماعيل بن سالم، ومجالد، عن الشعبي [ص:328]، عن النعمان بن بشير، قال: نحلني أبي نحلا، قال إسماعيل بن سالم من بين القوم: نحله غلاما، قال: فقالت له أمي عمرة بنت رواحة: ائت النبي صلى الله عليه وسلم، فأشهده، قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال: إني نحلت ابني النعمان نحلا، وإن عمرة سألتني أن أشهدك على ذلك، فقال: «ألك ولد سواه؟» قال: قلت: نعم، قال: «فكلهم أعطيت مثل ما أعطيت النعمان؟» فقال: لا، فقال بعض هؤلاء المحدثين: «هذا جور» وقال بعضهم: «هذا تلجئة، فأشهد على هذا غيري» ، وقال مغيرة في حديثه: «أليس يسرك أن يكونوا لك في البر واللطف سواء؟» قال: نعم، قال: «فأشهد على هذا غيري» وذكر مجالد في حديثه: «إن لهم عليك من الحق أن تعدل بينهم، كما أن لك عليهم من الحق أن يبروك»
الشَّريعةُ الإسلاميَّةُ شَريعةُ العَدْلِ والرَّحمةِ، ومِن صُوَرِ العَدلِ: المُساواةُ بَينَ الأولادِ في العَطاءِ والهَدايا؛ فإنَّ تَفضيلَ بَعضِ الأولادِ على بَعضٍ لا يَأتي إلَّا بالأحقادِ، وإيغارِ الصُّدورِ، فيَنتُجُ عن ذلك عُقوقُ الأولادِ لِلآباءِ؛ فلا يَبَرُّوهم
وفي هذا الحَديثِ يقولُ النُّعمانُ بنُ بَشيرٍ رَضيَ اللهُ عنهما: "نَحَلَني أبي نُحلًا" وهو العَطاءُ، مِنَ العَطيَّةِ والهَديَّةِ، "-قالَ إسماعيلُ بنُ سالِمٍ مِن بَينِ القَومِ: نَحَلَه غُلامًا"، بمَعنى: أنَّ رُواةَ الحَديثِ ذَكَروه باللَّفظِ السَّابِقِ، إلَّا إسماعيلَ فَقَطْ، ذَكَرَه بلَفظِ: (نَحَلَه غُلامًا) أعطاه عَبدًا مَملوكًا، "فقالَتْ له أُمِّي عَمْرةُ بِنتُ رَواحةَ: ائْتِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأشْهِدْه"، أي: قالَتْ أُمُّه لِأبيه: أشْهِدْ على تلك العَطيَّةِ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإنَّما أرادَتْ عَمْرةُ رَضيَ اللهُ عنها شَهادةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على تلك العَطيَّةِ؛ لِتَكونَ أوثَقَ دَرَجاتِ الإثباتِ في تَمَلُّكِها لِابْنِها، وظاهِرُ هذا أنَّ أُمَّه هي التي ألجأتْ أباه لِتلك الهَديَّةِ، "فأتى" بَشيرُ بنُ سَعدٍ رَضيَ اللهُ عنه، "النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فذَكَرَ ذلك له، فقالَ: إنِّي نَحَلتُ ابني النُّعمانَ نُحلًا، وإنَّ عَمْرةَ سألَتْني أنْ أُشهِدَكَ على ذلك. فقالَ: ألكَ وَلَدٌ سِواه؟" سأله النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن أولادٍ له غَيرِ ابنِه النُّعمانِ "قالَ: قُلتُ: نَعَمْ" وظاهِرُهُ أنَّ له أبناءً غَيرَ أشِقَّاءَ لِلنُّعمانِ، "قالَ: فكُلَّهم أعطَيتَ مِثلَ ما أعطَيتَ النُّعمانَ؟ فقالَ: لا"، فالنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَستَوضِحُ منه عنِ العَدلِ بَينَ أبنائِه لِيُقِرَّ بشَهادَتِه على العَطيَّةِ أو يَرفُضَها، "فقالَ بَعضُ هؤلاءِ المُحَدِّثينَ" رُواةِ هذا الحَديثِ في رِوايَتِهم أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ: "هذا جَورٌ" مِنَ الظُّلمِ والمَيلِ عنِ الحَقِّ، "وقالَ بَعضُهم: هذا تَلْجِئةٌ"، فيه إكراهٌ وضَرَرٌ، والمُرادُ هنا أنَّ امرأةَ بَشيرٍ قد ألجَأتْه وحَمَلتْه على فِعلِ ما يَكرَهُ؛ فرَفَضَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَشهَدَ على تلك العَطيَّةِ، وبَيَّنَ سَبَبَ رَفضِه لِلشَّهادةِ، ثم قالَ: "فأشْهِدْ على هذا غَيري"، وهذا تَهديدٌ وليس إذْنًا؛ فهذا مِثلُ قَولِه تَعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، "وقالَ مُغيرةُ" وهو ابنُ مِقْسَمٍ الضَّبِّيُّ، مِن رُواةِ الحَديثِ، "في حَديثِه: أليس يَسُرُّكَ أنْ يَكونوا لكَ في البِرِّ واللُّطفِ سَواءً؟" ألَا تُحِبُّ وتُسَرُّ بأنْ يَكونَ كُلُّ أولادِكَ في البِرِّ والإحسانِ إليكَ مُتساوِينَ غَيرَ عاقِّينَ لكَ؟ "قالَ: نَعَمْ، قالَ: فأشْهِدْ على هذا غَيري، "وذَكَرَ مُجالِدٌ" وهو ابنُ سَعيدٍ، مِن رُواةِ الحَديثِ، "في حَديثِه: إنَّ لهم عليكَ مِنَ الحَقِّ أنْ تَعدِلَ بَينَهم، كما أنَّ لكَ عليهم مِنَ الحَقِّ أنْ يَبَرُّوكَ" بمعنى: فكما أنَّكَ تُحِبُّ أنْ يَكونوا جَميعًا بارِّينَ بكَ، فعليكَ أنْ تَعدِلَ بَينَهم في العطايا والهِباتِ وغَيرِها مِمَّا يُورِثُ في النُّفوسِ الكَراهيةَ، إنْ لم يَكُنْ فيها عَدلٌ
وفي الحَديثِ: أنَّ الشَّهادةَ لا تَكونُ إلَّا في الحَقِّ، وفيما يُرضي اللهَ سُبحانَه وتَعالى
وفيه: إرشادُ الآباءِ لِكيفيَّةِ التَّربيةِ الصَّحيحةِ التي يَنتُجُ عنها أبناءٌ بارُّونَ بآبائِهم
وفيه: مَشروعيَّةُ دُخولِ الحاكِمِ في الشَّهاداتِ؛ لِأنَّهم إنَّما جاؤوا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِيُشهِدوه على ذلك