حديث زيد بن أرقم 3
مستند احمد
حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن ثمامة بن عقبة [ص:19]، عن زيد بن أرقم قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود فقال: يا أبا القاسم، ألست تزعم أن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون؟ وقال لأصحابه: إن أقر لي بهذه خصمته. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بلى والذي نفسي بيده، إن أحدهم ليعطى قوة مائة رجل في المطعم والمشرب والشهوة والجماع» . قال: فقال له اليهودي: فإن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حاجة أحدهم عرق يفيض من جلودهم مثل ريح المسك، فإذا البطن قد ضمر»
الدُّنيا بما فيها عَرَضٌ زائلٌ، والنَّعيمُ الكاملُ والدَّائمُ لا يكونُ إلَّا في الآخِرةِ؛ فاللهُ سُبحانَه يُجزِلُ العَطاءَ والمثوبةَ لعِبادِهِ الطَّائِعينَ في الجنَّةِ، ويُعطيهم اللهُ مِن الجَمالِ والقوَّةِ ما يتَلذَّذونَ به بالنَّعيمِ أضْعافًا مُضاعَفةً، ولا وجْهَ للمُقارَنةِ بيْنَ نَعيمِ الدُّنيا ونَعيمِ الآخِرةِ
كما يُبيِّنُ هذا الحَديثُ؛ حيثُ يقولُ زيدُ بنُ أرقَمَ رضِيَ اللهُ عنه: "قال لي رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ الرَّجُلَ من أهْلِ الجَنَّةِ يُعطى قُوةَ مِئةِ رَجُلٍ في الأكْلِ والشُّربِ"، فيَأكُلونَ ويَشرَبونَ تَنعُّمًا، لا عن جُوعٍ، ولا عَطَشٍ، فيَتنعَّمونَ تنعُّمًا لا آخِرَ له على هَيئةِ نَعيمِ الدُّنيا، لكِنْ لا نِسْبةَ بيْنَهما في اللَّذَّةِ والنَّفاسةِ، "والشَّهْوةِ" وهي كُلُّ ما يُشْتَهى من كُلِّ أنْواعِ المَرْغوباتِ "والجِماعِ" فيُعْطى قُوَّةَ مِئةِ رَجُلٍ في مُعاشَرةِ النِّساءِ، وفي هذا كِنايةٌ عن كَثرةِ عَدَدِ النِّساءِ الَّتي يُجامِعُها، وقيلَ: هو كِنايةٌ عن عَدَدِ مرَّاتِ الجِماعِ، وهذه النِّعَمُ زادَ اللهُ المُؤمِنَ قُوَّةً في تَناوُلِها والتَّنعُّمِ بها؛ لأنَّها مَحِلُّ الفِتْنةِ والحِرْمانِ في الدُّنيا، جعَلَ اللهُ لِمَن يَتَّقيهِ في الدُّنيا ما يُقابِلُها في الجنَّةِ مِن الأجْرِ والثَّوابِ عِوَضًا عنها؛ حيثُ أعطاهُ هذه القُوَّةَ العظيمةَ؛ ليتمتَّعَ المُتْعةَ الكامِلةَ بنَعيمِ الجَنَّةِ
"فقالَ رَجُلٌ من اليَهودِ: فإنَّ الَّذي يَأكُلُ ويَشرَبُ تَكونُ له الحاجةُ؟" كِنايةٌ عن الخارِجِ من السَّبيلينِ من البَولِ والغائِطِ، وهذا استِفْهامُ تَعجُّبٍ فأين يُخرِجُ فَضَلاتِهِ وهو من الأذى الَّذي لا يَتَناسَبُ مع نَعيمِ الجَنَّةِ، وهذا قياسٌ منه على أحْوالِ الدُّنيا "فقالَ له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: حاجةُ أحَدِهِم عَرَقٌ يَفيضُ من جِلدِهِ"، فتَخرُجُ فَضَلاتُ الجِسمِ على صُورةِ عَرَقٍ، وفي روايةِ ابنِ حِبَّانَ وغَيرِهِ: أنَّ العَرَقَ يكونُ له رائِحةٌ مِثلُ رائِحةِ المِسكِ، وفي روايةِ جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ عِندَ مُسلِمٍ: "جُشاءٌ ورَشْحٌ كرَشْحِ المِسكِ"، والجُشاءُ هو صَوتٌ مع رِيحٍ يَخرُجُ من الفَمِ عِندَ الشِّبَعِ وامتِلاءِ المَعِدةِ، ويُجمَعُ بيْنَ الرِّوايَتَينِ بأنَّ بَعضَ الطَّعامِ يكونُ جُشاءً، وبعضُهُ يكونُ رَشحًا، أو أنَّ الأكْلَ يَنقلِبُ جُشاءً، والشُّربُ يَخرُجُ رَشْحًا
"فإذا بَطْنُهُ قد ضمَرَ" قلَّ حَجْمُها لِخُروجِ ما فيها، وبذلِكَ فقد صانَ اللهُ سُبْحانَهُ الجَنَّةَ عن أوْساخِ الدُّنيا، وصانَ العِبادَ من سُكَّانِها عن ذلِكَ؛ لِيَتِمَّ تنعُّمُ أهْلِ الجَنَّةِ بكُلِّ نَعيمٍ ويَسلَموا من كُلِّ مُنغِّصٍ وأذًى
ولمَّا كانت أغْذيةُ أهْلِ الجَنَّةِ في غايةِ اللَّطافةِ والاعتِدالِ لم يكُنْ فيها أذًى، ولا فَضْلةٌ تُستَقذَرُ، بل يَتولَّدُ عن تِلك الأغذيةِ أطيَبُ رِيح ٍوأحسَنُهُ
وفي الحَديثِ: بَيانُ فَضلِ اللهِ عزَّ وجلَّ على المُؤمِنينَ في الجَنَّةِ، وسَعةِ نَعيمِهِ