حديث سراقة بن مالك بن جعشم 11
مستند احمد
كانتِ الهِجْرةُ النَّبويَّةُ بِدايةَ عَهدٍ جَديدٍ للدَّولةِ الإسْلاميَّةِ، وكانتْ رِحلةً مُبارَكةً، أيَّدَ اللهُ فيها رَسولَه بالمُعجِزاتِ، وحفِظَه مِن كَيدِ أعْدائِه، ولم يَلبَثْ طَويلًا حتَّى تحقَّقَ وَعْدُ اللهِ لنَبيِّه بالنَّصرِ، ودانَتِ البِلادُ والعبادُ للهِ الواحِدِ القهَّارِ
وفي هذا الحَديثِ يَحْكي سُراقةُ بنُ مالكِ بنِ جُعْشُمٍ رَضيَ اللهُ عنه ما حدَث معَه ورَآهُ أثْناءَ هِجرةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكان سُراقةُ يومَها مُشرِكًا، فيُخبِرُ أنَّه كان في قَومِه، فجاءهُمْ مَبعوثٌ مِن كفَّارِ قُرَيشٍ يُخبِرُهم أنَّهم يَجعَلونَ لمَن يَقتُلُ، أو يَأسِرُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأبا بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه مِثلَ دِيَةِ كلِّ واحدٍ منهما، أي: مِئةَ ناقةٍ عن كلِّ واحدٍ منهما
ويَحْكي سُراقةُ أنَّه بيْنَما هو جالسٌ في مَجلِسٍ مِن مَجالِسِ قَومِه بَني مُدلِجٍ؛ إذ أقبَلَ رَجلٌ منهم، حتَّى وقَف عندَهم وهمْ جُلوسٌ، فذَكَر لسُراقةَ أنَّه رَأى في وَقْتٍ قريبٍ «أَسْوِدةً» -أي: أشْخاصًا- بالسَّاحلِ، يظُنُّ أنَّهم محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه، فعرَف سُراقةُ أنَّهما رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وصاحِبُه، ولكنَّه خطَّأَ ظنَّ هذا الرَّجلِ، وأوْهَمَه أنَّه إنَّما رَأى فُلانًا وفُلانًا انطَلَقوا بأعْيُنِنا، أي: في نظَرِنا مَعايَنةً يَبتَغونَ ضالَّةً لهم، قال ذلك؛ لأنَّه يُريدُ أنْ يَخرُجَ بنفْسِه لأسْرِ أو قَتلِ أبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه والنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ويَستَأثِرَ بدِيَتِهما لنفْسِه
ويَحْكي سُراقةُ أنَّه مكَثَ في مَجلِسِه بعضَ الوَقتِ، ثمَّ دَخَل مَنزِلَه، وأمَر جاريَتَه أنْ تَخرُجَ بفرَسِه مُتستِّرةً عنِ النَّاسِ وَراءَ مُرتَفِعٍ منَ الأرضِ؛ لئَلَّا يَعلَموا بخُروجِه، فيَسبِقَه أحَدٌ إلى محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وصاحِبِه. فأخبَرَ أنَّه أخذ رُمْحَه وخرَجَ به مِن خلْفِ البَيتِ، وقولُه: «فحطَطْتُ بزُجِّه الأرَضَ، وخفَضْتُ عاليَه»، أي: أرخَيْتُ رُمْحي حتَّى مسَّ زُجُّه -وهي الحَديدُ الَّذي في أسفَلِ الرُّمحِ- الأرضَ، وبالَغْتُ في خَفضِ أعْلاه؛ لئَلَّا يظهَرَ لمَن بعُدَ عنه، قال: «حتَّى أتيْتُ فَرَسي، فركِبْتُها، فرفَعْتُها تُقرِّبُ بي»، أي: فأسرَعْتُ بفَرَسي لكي تُقرِّبَني منهما، وتَقطَعَ المَسافةَ في زَمنٍ قَصيرٍ إليهما، فلمَّا اقتَرَبَ سُراقةُ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه، عثَرَتْ به فَرَسُه عَثْرةً شَديدةً، حتَّى سقَطَ عن ظَهْرِها، فمَدَّ يَدَه إلى كِيسِ السِّهامِ الَّذي معَه، فاستَخرَجَ منها الأزلامَ -وهي أقلامٌ كانوا يَكتُبون على بعضِها: نَعَم، وعلى بعضِها: لا، وكانوا إذا أرادوا أمرًا استَقْسَموا بها، فإذا خرَجَ السَّهمُ الذي عليه «نَعَم» خَرَجوا، وإذا خرَجَ الآخَرُ لم يَخْرُجوا، ومعنى الاستقسامِ: مَعرِفةُ قسْمِ الخيرِ والشَّرِّ- فلمَّا استَقْسَمَ ليَعرِفَ هل يَنفَعُهم أمْ يَضُرُّهم؟ خرَجَ السَّهمُ الَّذي يدُلُّ على ألَّا يَضُرَّهم
ويَذكُرُ سُراقةُ أنَّه لم يَلتفِتْ إلى ما ظهَر له مِن الاستقسامِ، بلْ ركِبَ فَرَسَه وقصَد النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وصاحِبَه حتَّى دَنا منهما مرَّةً أُخْرى، وسَمِع قِراءةَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ووَصَفَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنَّه لا يَلتفِتُ، وأنَّ أبا بَكرٍ كان يُكثِرُ الالْتِفاتَ؛ خَوفًا على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فلمَّا اقتَرَب منهما «ساخَتْ» -أي: غاصَتْ- يَدَا الفَرَسِ في الأرضِ، حتَّى بلَغَت رُكبَتَيْها، فصاح عليها بشِدَّةٍ زَجرًا لها، فقامَتِ الفرَسُ بعْدَ مُحاوَلةٍ شَديدةٍ، حتَّى إنَّها كادَت ألَّا تَستَطيعَ إخْراجَ يدَيْها مِن الأرضِ، «فلمَّا استَوَتْ قائمةً، إذا لِأثَرِ يدَيْها عُثانٌ ساطِعٌ في السَّماءِ»، أي: فلمَّا اعتدَلَتِ الفرَسُ، وقامَت مِن سَقطَتِها، رَأى سُراقةُ لِأثَرِ يدَيْها غُبارًا شَديدًا مِثلَ الدُّخَانِ في سَوادِه، مُنتشِرًا في السَّماءِ، فناداهما سُراقةُ يَستَوقِفُهما مُعْطيًا لهما الأمانَ، وأنَّه لنْ يَنالَهما منه أذًى، فوَثِقا به، ووَقَفا، ويَذكُرُ سُراقةُ أنَّه بعدَما مُنِعَ مِن الظَّفَرِ برَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وحِيلَ بيْنَه وبيْنَه بهذه الأُمورِ الخَوارِقِ؛ تيقَّنَ أنَّ محمَّدًا رَسولُ اللهِ حقًّا، وأنَّ دِينَه سيَعْلو، وأخبَرَهما بما جَعَلَتْه قُرَيشٌ مِن جائزةٍ لمَن يَأْتي بهما، وقِيمَتُها دِيَةُ كلِّ واحدٍ منهما، وأخبَرَهما بما تُريدُ قُرَيشٌ بهما مِن الحِرصِ على الظَّفَرِ بهما، ونَحوِ ذلك، وعرَضَ عليهما الطَّعامَ والمَتاعَ، فلمْ يَأخُذا منه شَيئًا، ولم يَسْأَلاه شَيئًا ممَّا هو معَه، وأمَرَه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُخفيَ أمرَه عنِ النَّاسِ
وسَأَل سُراقةُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يكتُبَ له كتابَ أمانٍ، أي: كِتابَ مُوادَعةٍ يؤَمِّنُه فيه، حتَّى إذا الْتَقى بالمُسلِمينَ في المَدينةِ، أو غَيرِها لا يَتعرَّضُ له أحَدٌ منهم بسُوءٍ. فأمَرَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عامرَ بنَ فُهَيْرةَ، فكتَب في رُقْعةٍ مِن أَديمٍ، أي: قِطعةٍ مِن جِلدٍ، ومَضى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في طَريقِه إلى المَدينةِ
وفي الحَديثِ: أنَّ هِجرتَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لم تكُنْ سَهلةً مَيْسورةً، وإنَّما كانت صَعبةً قاسيةً مَحْفوفةً بالمَخاطرِ
وفيه: مُعجِزتُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الظَّاهِرةُ مع سُراقةَ بنِ جُعْشُمٍ وكيف أنَّ اللهَ حَفِظَه