حديث سلمة بن الأكوع 27

مسند احمد

حديث سلمة بن الأكوع 27

في هذا الحَديثِ يَروي سَلَمةُ بنُ الأكوَعِ رضِيَ اللهُ عنه بَعضَ المَشاهِدِ التي حَضَرَها مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فيَقولُ: "قَدِمْنا الحُدَيْبيَةَ مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ"، والحُدَيْبيَةُ: قَرْيةٌ قَريبةٌ مِن مَكَّةَ، سُمِّيتْ باسمِ بِئرٍ، وفيها وَقَعَ صُلحُ الحُدَيْبيةِ سَنةَ سِتٍّ مِنَ الهِجرةِ بيْن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وكُفَّارِ مَكَّةَ، "ونَحنُ" المُسلِمينَ، "أربَعَ عَشْرةَ مِئةً، وعليها خَمسونَ شاةً لا تَرْويها"، والمَعنى: كانَ معهم على البِئرِ خَمسونَ مِنَ الأغنامِ تُحاوِلُ الشُّربَ؛ إشارةً إلى أنَّ ماءَ البِئرِ لا يَكفي، قالَ سَلَمةُ رضِيَ اللهُ عنه: "فقَعَدَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على جَبا الرَّكيَّةِ"، وهو التُّرابُ الذي أُخرِجَ مِنَ البِئرِ وجُعِلَ حَولَها، "فإمَّا دَعا" بالبَرَكةِ وفَيَضانِ الماءِ فيها "وإمَّا بَسَقَ فيها"، يعني: تَفَلَ مِن لُعابِه فيها لتَحْصُلَ فيها البركةُ بأثَرِ لُعابِه، "فجاشَتْ"، فاضَتْ بالماءِ، وهي مُعجِزةٌ ظاهِرةٌ مِن مُعجِزاتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "فسَقَيْنا" دَوابَّنا "واستَقَيْنا"، وشَرِبْنا حتى شَبِعْنا مِنَ العَطَشِ، "ثمَّ إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ دَعانا لِلبَيعةِ في أصلِ الشَّجَرةِ"، تَحتَ الشَّجَرةِ عِندَ جِذعِها، والبَيعةُ: هي المُعاقَدةُ والمُعاهَدةُ على الالتِزامِ بما يُوجِبُه اللهُ ورَسولُه، وكان سَبَبُ هذه البَيعةِ: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَمَّا صَدَّه المُشرِكونَ عن دُخولِ مَكَّةَ بَعَثَ عُثمانَ رضِيَ اللهُ عنه إلى مَكَّةَ بكِتابٍ يُخبِرُ به أشْرافَ قُرَيشٍ بأنَّه لم يَأتِ إلَّا زائرًا لِلبَيتِ ومُعَظِّمًا لِحُرْمَتِه، فأُشيعَ قَتْلُ عُثمانَ حتى بَلَغَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فقالَ: أمَا واللهِ إنْ قَتَلوه لَأُناجِزَنَّهم، ودَعا الناسَ لِلبَيعةِ، فبايَعَه بَعضُهم على المَوتِ، وبَعضُهم على ألَّا يَفِرُّوا، وتُسَمَّى هذه البَيعةُ بَيعةَ الرِّضوانِ؛ لِقَولِه تَعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18]. قالَ سَلَمةُ: "فبايَعتُه أوَّلَ الناسِ"، وَقتَ ابتِداءِ البَيعةِ فكان مِن أوَّلِ المبايعينَ، "ثمَّ بايَعَ وبايَعَ"، والمراد ثمَّ أخَذَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ البَيعةَ مِنَ الناسِ مَرَّاتٍ، "حتى إذا كانَ في وَسَطٍ مِنَ الناسِ" في جَمعٍ مِن أصحابِه، "قالَ: بايِعْ يا سَلَمةُ"، فطلَبَ مِنْه أنْ يكَرِّرَ البَيعةَ مَرَّةً أُخرى، "قُلتُ: قد بايَعتُكَ يا رَسولَ اللهِ في أوَّلِ الناسِ. قالَ: وأيضًا"، بمَعنى: وإنْ كُنتَ بايَعتَ في أوَّلِ الناسِ فكَرِّرِ البَيعةَ مَرَّةً أُخرى، "ورآني رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَزِلًا -يَعني: ليس معه سِلاحٌ- فأعْطاني رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حَجَفةً أو دَرَقةً"، وهي التُّرْسُ الصَّغيرُ الَّذي يُتَّقى به مِن ضَرَباتِ السَّيفِ، "ثمَّ بايَعَ"، فجَعَلَ يأْخُذُ البَيعةَ مِن أصحابِه، "حتى إذا كانَ" النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ "في آخِرِ الناسِ، قالَ: ألَا تُبايِعُني يا سَلَمةُ؟ قُلتُ: قد بايَعتُكَ يا رَسولَ اللهِ في أوَّلِ الناسِ، وفي أوسَطِ الناسِ. قالَ: وأيضًا. فبايَعْتُه الثَّالِثةَ"، فبايَعَ سلمةُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، "ثم قالَ لي: يا سَلَمةُ، أين حَجَفَتُكَ أو دَرَقَتُكَ التي أعطَيتُكَ؟ قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، لَقِيَني عَمِّي عامِرٌ عَزِلًا"، ليس معه سِلاحٌ، "فأعْطَيتُه إيَّاها. قالَ: فضَحِكَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وقالَ: إنَّكَ كالذي قالَ الأوَّلُ: اللَّهُمَّ أبغِني حَبيبًا هو أحَبُّ إليَّ مِن نَفْسي"، والمُرادُ أنَّكَ آثَرتَ بسِلاحِكَ عَمَّكَ، فأعْطَيتَه إيَّاه ولم تُبقِه معكَ لِيَنفَعَكَ في الحَرْبِ. قال سَلَمةُ رَضِيَ اللهُ عنه: "ثمَّ إنَّ المُشرِكينَ راسَلُونا الصُّلحَ" يعني: طَلَبوا الصُّلحَ مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "حتى مَشى بَعضُنا في بَعضٍ، واصْطَلَحْنا"، والمَعنى: أمِنَ كُلُّ واحِدٍ مِنَ الفَريقَيْنِ الآخَرَ بَعدَ الصُّلحِ، "وكُنتُ تَبِيعًا لِطَلحةَ بنِ عُبَيدِ اللهِ"، والتَّبيعُ: الخادِمُ والأجيرُ، "أسْقي فَرَسَه، وأحُسُّه"، فأُنظِّفُه وأنْفُضُ عنه التُّرابَ، "وأخدُمُه، وآكُلُ مِن طَعامِه"، نَظيرَ خِدمَتِه، "وتَرَكتُ أهْلي ومالي، مُهاجِرًا إلى اللهِ ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فلَمَّا اصْطَلَحْنا نحن وأهلُ مَكةَ"، يعني: وَقَعَ بَينَنا الصُّلحُ والمُعاهَدةُ، "واختَلَطَ بَعضُنا ببَعضٍ، أتَيتُ شَجَرةً فكَسَحتُ شَوكَها"، فكَنَسْتُه وأزحْتُه عن مَوضِعٍ في ظِلِّها، "فاضْطَجَعْتُ في أصْلِها"، فنِمتُ تَحتَها عِندَ جِذْعِها، "قالَ: فأتاني أربَعةٌ مِنَ المُشرِكينَ مِن أهلِ مَكَّةَ، فجَعَلوا يَقَعونَ في رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ"؛ إمَّا بالشَّتمِ والسَّبِّ، وإمَّا بالاستِهزاءِ والسُّخريةِ، "فأبغَضْتُهم"، فكَرِهتُهم؛ مُحافِظًا على صُلحِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "فتَحَوَّلتُ إلى شَجَرةٍ أُخرى"، فانتَقَلتُ لِأنامَ تَحتَ شَجَرةٍ غَيرِها مُبتَعِدًا عنهم، "وعَلَّقوا سِلاحَهم، واضطَجَعوا" يعني ناموا، "فبَينَما هم كذلك إذْ نادى مُنادٍ مِن أسفَلِ الوادي: يا لَلْمُهاجِرينَ، قُتِلَ ابنُ زُنَيمٍ"، وكانَ رَجُلًا مِن أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قَتَلَه أحَدُ المُشرِكينَ في فَترةِ ما كانَ بيْنهم مِنَ المُعاهَدةِ والصُّلحِ، قالَ سَلَمةُ: "فاختَرَطْتُ سَيفي"، فسَلَلتُه مِن غِمدِه وأخرَجتُه منه لأقاتِلَ المشركين؛ لأنَّهم نَقَضوا الصُّلحَ؛ "ثمَّ شَدَدتُ على أولئك الأربَعةِ وهم رُقودٌ"، وهم الأربَعةُ الذين تَحَوَّلَ لِأجْلِهم مِن شَجَرَتِه الأُولى، "فأخَذتُ سِلاحَهم" المُعَلَّقَ على الشَّجَرةِ، "فجَعَلتُه ضِغثًا في يَدي"، يُريدُ أنَّه أخَذَ سِلاحَهم وجَمَعَ بَعضَه إلى بَعضٍ حتى جَعَلَه كُلَّه في يَدِه، "ثمَّ قُلتُ: والذي كَرَّمَ وَجهَ مُحمدٍ"، مُقسِمًا باللهِ عزَّ وجلَّ، "لا يَرفَعُ أحَدٌ مِنكم رَأسَه إلَّا ضَرَبتُ الذي فيه عَيناهُ"، يَعني: ضَرَبتُ رَأْسَه وقَتَلْتُه، "ثمَّ جِئتُ بهم أسوقُهم" أمامي "إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وجاء عَمِّي عامِرٌ برَجُلٍ مِنَ العَبَلاتِ"، وهم بَطنٌ مِن قُرَيشٍ، وهم أُمَيَّةُ الصُّغرى مِن بَني عَبدِ شَمسِ بنِ عَبدِ مَنافٍ، "يُقالُ له: مِكرَزٌ، يَقودُه إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على فَرَسٍ مُجَفَّفٍ"، وهو الفَرَسُ المُلَبَّسُ بالتَّجافيفِ، جَمعُ تِجفافٍ، وهو ثَوبٌ كالجُلِّ يَلبَسُه الفَرَسُ لِيَقِيَه مِنَ السِّلاحِ، "في سَبعينَ مِنَ المُشرِكينَ" قد أُسِروا، وكان سَبَبُ أسرِهم: أنَّهم عَمَدوا إلى عَسكَرِ المُسلِمينَ بَعدَ الصُّلحِ، فأرادوا التَّحامُلَ عليهم، فرَمَوُا المُسلِمينَ بالحِجارةِ والنَّبْلِ، "فنَظَرَ إليهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقالَ: دَعُوهم" فاتْرُكُوهم وخَلُّوا سَبيلَهم، "يَكُنْ لهم بَدْءُ الفُجورِ وثِناهُ"، والفُجورُ هنا: نَقضُ الصُّلحِ، وثِناهُ: إعادَتُه ثانيةً، والمَعنى: إنْ تَرَكْتُموهم يَكُنْ لهم بَدْءُ الفُجورِ وابتِداءُ الغَدرِ، وإعادَتُه، فليَكُنْ لهم أوَّلُ النَّقضِ وآخِرُه. "فعَفا عنهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. وأنزَلَ اللهُ: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 24]، الآيةَ كُلَّها"، والمعنى: أنَّ اللهَ بِفضلِهِ هُو الَّذي منَعَ وُصولَ الأذَى إليكُم مْنهُم كما منع أذِيَّتَكُم لهم بعد أن نصرَكُم عليهم قُرْبَ مكَّةَ "قالَ: ثم خَرَجْنا راجِعينَ إلى المَدينةِ، فنَزَلْنا مَنزِلًا بيْننا وبيْن بَني لَحيانَ، جَبَلٌ"، يُريدُ: إنَّنا نَزَلْنا مَنزِلًا قَريبًا مِن بَني لَحيانَ، لا يَحولُ بيْننا وبيْنهم إلَّا جَبَلٌ واحِدٌ، "وهُمْ المُشرِكونَ"، والمُرادُ أنَّ بَني لَحيانَ مُشرِكونَ، وضَبَطَه بَعضُهم (وهَمَّ) بفَتحِ الهاءِ وتَشديدِ الميمِ المَفتوحةِ على أنَّه فِعلٌ ماضٍ، وعليه فيَكونُ المَعنى: وهَمَّ وأغَمَّ شَأنُ المُشرِكينَ الذين همْ بَنو لَحيانَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأصحابَه؛ مَخافةَ أنْ يُبَيِّتَ المُشرِكونَ إيَّاهم في اللَّيلِ؛ لِكَونِهم نَزَلوا قُرْبَهم؛ "فاستَغفَرَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِمَن رَقِيَ هذا الجَبَلَ اللَّيلةَ"، فَدَعا بالمغفِرةِ لِمَن صَعِدَ الجَبَلَ الذي بيْنهم وبيْن بَني لَحيانَ، "كَأنَّه طَليعةٌ لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأصحابِه"، والطَّليعةُ: مَن يَتطَلَّعُ على العَدُوِّ لِيُنذِرَ قَومَه مِن أيِّ غَدْرٍ مِنَهم. "قالَ سَلَمةُ: فرَقِيتُ تلك اللَّيلةَ مَرَّتَيْنِ أو ثَلاثًا، ثمَّ قَدِمْنا المَدينةَ؛ فبَعَثَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بظَهْرِه مع رَباحٍ؛ غُلامِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأنا معه"، والظَّهرُ: الإبِلُ تُعَدُّ لِلرُّكوبِ وحَمْلِ الأثقالِ إلى مَوضِعٍ؛ أي: بعَثَ دابَّتَه لِتَرْعى في مَوضِعِها خارِجَ المَدينةِ، وهو الغابةُ، "وخَرَجْتُ معه بفَرَسِ طَلحةَ، أُنَدِّيهِ مع الظَّهرِ"، أي: أسْقي فَرَسَ طَلحةَ مع الإبلِ، "فلَمَّا أصبَحْنا إذا عَبدُ الرَّحمنِ الفَزاريُّ قد أغارَ على ظَهرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ"، وهَجَمَ مع قَومِه على إبِلِ الصَّدَقةِ وفيها ناقةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "فاسْتاقَه أجْمَعَ، وقَتَلَ راعِيَه"، فقَتَلَ عَبدُ الرَّحمنِ الفَزاريُّ راعيَ الإبِلِ، وهو يَسارٌ النُّوبيُّ، "فقُلتُ: يا رَباحُ، خُذْ هذا الفَرَسَ فأبلِغْه طَلحةَ بنَ عُبَيدِ اللهِ"، يعني: سَلِّمْه إليه، فيَكون قد رَدَّ الأمانةَ لِصاحِبِها، ولِيَكونَ أسْرَعَ في إبلاغِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "وأخبِرْ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ المُشرِكينَ قد أغاروا على سَرْحِه"، وهي الجِمالُ والإبِلُ والمَواشي الرَّاعيةُ الخاصَّةُ به، سُمِّيتْ بذلك لِسُروحِها غَدوةً لِلمَرعى، "قالَ: ثمَّ قُمتُ على أكَمَةٍ"، وهي التَّلُّ مِن حِجارةٍ، أوِ المَوضِعُ يَكونُ أشَدَّ ارتِفاعًا مِمَّا حَولَه، وهو غَليظٌ لا يَبلُغُ أنْ يَكونَ حَجَرًا، "فاستَقبَلْتُ المَدينةَ"، تَوَجَّهتُ إليها، "فنادَيتُ ثَلاثًا: يا صَباحاهُ"، والمَعنى: صَرَختُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ بصَوتٍ عالٍ؛ لِيُنبِّهَ أهلَ المَدينةِ، "ثمَّ خَرَجتُ في آثارِ القَومِ"، ذَهَبتُ وَراءَهم، أَتَتبَّعُهمْ "أرْمِيهم بالنَّبْلِ"، أضْرِبُهم مِن بَعيدٍ بالسِّهامِ، "وأرتَجِزُ" بإنشادِ الرَّجَزِ مِنَ الشِّعرِ، "أقولُ: أنا ابنُ الأكوَعِ"، وكانَ من عادةْ العرَبْ الفَخْرُ بآبائْهم في الحُروبِ تَشجيعًا لأنفُسِهِم "واليَومُ يَومُ الرُّضَّعِ"، والرُّضَّعُ جَمعُ راضِعٍ، وفي أصلِ معناه أقوالٌ، فقيل: اليومَ يُعلَمُ مَن أرضعتْه الحربُ مِن صِغَرِه فيكونُ كنايةً عن الظهورِ والانتصارِ. وقيل: أرادَ اللِّئامَ الذين يَرضعونَ الناقةَ ولا يَحلُبونَها لئلَّا يَشعُرَ به أحدٌ فيطلبَ منه اللَّبنَ، فعبَّروا عن كلِّ لئيمٍ بذلك، وعليه قالوا في المثَلْ: لئيم راضعٌ، وقيل: هو الَّذي رَضَعَ اللُّؤْمَ من ثَدي أُمِّه وغُذِيَ به وهو مطبوعٌ عليه، فيكون المَعنى: اليَومُ يَومُ هَلاكِ اللِّئامِ. "فألْحَقُ رَجُلًا مِنهم" مِنَ الفَزاريِّينَ المُغِيرينَ على الإبِلِ، "فأصُكُّ سَهمًا في رَحلِه"، يعني: أُطلِقُ عليه سَهمًا، فأُصيبُ مُؤْخِرةَ الرَّحلِ الذي يَركَبُ عليه، والرَّحلُ: مَركَبُ البَعيرِ، كالسَّرْجِ لِلفَرَسِ، "حتى خَلَصَ نَصلُ السَّهمِ إلى كَتِفِه"، يعني: دَخَلتْ حَديدةُ رَأسِ السَّهمِ في كَتِفِه، وأعلى ظَهرِه، "قُلتُ: خُذْها وأنا ابنُ الأكوَعِ * واليَومُ يَومُ الرُّضَّعِ"، فخُذْ هذه الطَّعنةَ منِّي، وهذا كانَ مِن عادةِ العَرَبِ عِندَ القِتالِ والمُحارَبةِ: أنْ يَتفاخَروا بالآباءِ والأنسابِ، ومِن شَأنِ هذا أنْ يَزيدَ مِن حَماسَتِهم، قالَ سَلَمةُ: "فَواللهِ، ما زِلتُ أرْمِيهم"، بالنَّبلِ والسِّهامِ، "وأعقِرُ بهم"، والعَقرُ: ضَرْبُ قَوائِمِ البَعيرِ والفَرَسِ بالسَّيفِ، ثمَّ اتَّسَعَ حتى استُعمِلَ في القَتلِ، "فإذا رَجَعَ إلَيَّ فارِسٌ أتَيتُ شَجَرةً فجَلَستُ في أصْلِها"، تَحتَ جِذْعِها لِلاختِباءِ والتَّستُّرِ، "ثمَّ رَمَيتُه، فعَقَرتُ به، حتى إذا تَضايَقَ الجَبَلُ دَخَلوا في تَضايُقِه"، والمعنى: أخَذَ بهمُ الطَّريقُ إلى مَمَرٍّ ضَيِّقٍ في الجَبَلِ؛ إشارةً إلى ازدِحامِهم فيه، "عَلَوتُ الجَبَلَ"،صَعِدتُ فَوقَه"فجَعَلتُ أُرْدِيهم بالحِجارةِ" أُسقِطُها عليهم، "فما زِلتُ كذلك" أرْمِيهم بالحِجارةِ، "أتْبَعُهم"، أمْشي وَراءَهم، "حتى ما خَلَقَ اللهُ مِن بَعيرٍ مِن ظَهرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلَّا خَلَّفتُه وَراءَ ظَهْري"، والمَعنى: أنَّه ما زالَ بهم إلى أنِ استَخلَصَ منهم كُلَّ بَعيرٍ أخَذوه مِن إبِلِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وتَرَكَه خَلْفَه؛ لِيَكونَ في حَوزَتِه، وحالَ بيْنهم وبيْنه، "وخَلَّوْا بيْني وبيْنَه"، وتَرَكوه لِأقبِضَه وآخُذَه، "ثمَّ اتَّبَعتُهم أرْمِيهم" بالسِّهامِ، "حتى ألْقَوْا أكثَرَ مِن ثَلاثينَ بُردةً وثَلاثينَ رُمحًا؛ يَستَخِفُّونَ"، يَطْلُبونَ الخِفَّةَ منها؛ لِيَكونوا أسرَعَ في الفِرارِ والهَرَبِ منه، "ولا يَطرَحونَ شَيئًا" ولا يَرمونَ شَيئًا مِنَ البُرودِ والرِّماحِ "إلَّا جَعَلتُ عليه آرامًا مِنَ الحِجارةِ"، يعني: وضعتُ عليه عَلاماتٍ مِنَ الحِجارةِ "يَعرِفُها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأصحابُه"؛ لِيَعرِفوها، ويَأخُذوها مِن وَرائِه ويَحفَظوها، "حتى إذا أتَوْا مُتَضايِقًا"، وَصَلوا مَكانًا ضَيِّقًا، "مِن ثَنيَّةٍ"، وهي الطَّريقُ بيْنَ الجَبلَيْنِ، "فإذا همْ قد أتاهم فُلانُ ابنُ بَدرٍ الفَزاريُّ"، قيلَ: هو حَبيبُ أو عبدُ الرَّحمنِ بنُ عُيَيْنةَ بنِ بَدْرٍ الفَزاريُّ، قِيل: يُحْتَملُ أنْ يكونَ الاسمانِ لشَخْصٍ واحدٍ له هذَان الاسْمانِ "فجَلَسوا يَتضَحَّوْنَ -يَعني يَتغَدَّونَ-" يَأكلونَ الغَداءَ وَقتَ الضُّحى، "وجَلَستُ على رَأسِ قَرنٍ" وهو أعلى الجَبَلِ، أوِ الجَبَلُ الصَّغيرُ، أوِ القِطعةُ تَنفَرِدُ مِنَ الجَبَلِ، "قالَ الفَزاريُّ: ما هذا الذي أرَى؟! " ما يَكونُ ذلك الذي فَوقَ الجَبَلِ؟ وأشارَ إلى سَلَمةَ بنِ الأكوَعِ، "قالوا: لَقِينا مِن هذا البَرْحَ"، أصابَتْنا منه الشِّدةُ والمَشقَّةُ، "واللهِ ما فارَقَنا مُنذُ غَلَسٍ" يُقْسِم أنَّه ما تَرَكَنا مِن وَقتِ الغَلَسِ، وهو ظُلمةُ آخِرِ اللَّيلِ، "يَرْمِينا، حتى انتَزَعَ"، فأخَذَ "كُلَّ شَيءٍ في أيْدِينا، قالَ الفَزاريُّ: "فلْيَقُمْ إليه نَفَرٌ منكم -أربَعةٌ-" والنَّفَرُ: الجَماعةُ، قالَ سَلَمةُ رَضِيَ اللهُ عنه: "فصَعِدَ إلَيَّ منهم أربَعةٌ في الجَبَلِ، قالَ: فلَمَّا أمْكَنوني مِن الكَلامِ"، فاقْتَرَبوا بحيثُ يُمكِنُ لي سَماعُهم وسَماعي، "قُلتُ: هلْ تَعرِفوني؟ قالوا: لا، ومَن أنتَ؟ قالَ: قُلتُ: أنا سَلَمةُ بنُ الأكوَعِ، والذي كَرَّمَ وَجهَ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، لا أطلُبُ رَجُلًا مِنكم إلَّا أدْرَكْتُه"، لا أقصِدُ أحَدًا مِنكم إلَّا وأنا قادِرٌ عليه قدَرْتُ عليه وقتَلْتُه، سَواءٌ كانَ على حالةِ الفِرارِ أوِ المُواجَهةِ، وهذا تَهديدٌ لهم، "ولا يَطلُبُني رَجُلٌ مِنكم فيُدرِكَني"، وعلى العَكسِ، فلا يَقصِدُني أحَدٌ مِنكم إلَّا وسَيَكونُ مَهزومًا، "قالَ أحَدُهم: أنا أظُنُّ"، بمَعنى: أنا أُصَدِّقُ كَلامَ سَلَمةَ، "قالَ: فرَجَعوا، فما بَرِحتُ مَكاني"، أي: ظَلَلتُ فيه، "حتى رَأيتُ فَوارِسَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ" الذين أرسَلَهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والفَوارِسُ: جَمعُ فارِسٍ، وهمُ المُقاتِلونَ على الخَيلِ، "يَتخَلَّلونَ الشَّجَرَ"، يَدخُلونَ ويَمُرُّونَ بيْنَ الأشجارِ يَطلُبونَ العَدُوَّ، والخِلالُ: جَمعُ خَلَلٍ، وهي الفُرْجةُ بيْن الشَّيئَيْنِ، "فإذا أوَّلُهم الأخرَمُ الأسَديُّ" وهو مُحرِزُ بنُ نَضْلةَ، "على أثَرِه"، مِن خَلفِه "أبو قَتادةَ الأنصاريُّ" وهو فارِسُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "وعلى أثَرِه المِقدادُ بنُ الأسوَدِ الكِنديُّ، قالَ: فأخَذتُ بعِنانِ الأخرَمِ"، فأمْسَكتُ بلِجامِ فَرَسِه؛ لْمَنْعِه عنِ اتِّباعِ المُشرِكينَ وَحدَه، "قالَ: فوَلَّوْا مُدبِرينَ"، فهَرَبَ المُشرِكونَ عِندَما رَأوْا فُرسانَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "قُلتُ: يا أخرَمُ، احذَرْهم"، أي: احذَرْ هؤلاء المُشرِكينَ، واحفَظْ نَفْسَكَ مِن ضَرَرِهم، "لا يَقتَطِعوكَ"، لا يَأخُذوكَ ويَنفَرِدوا بكَ فيَفصِلوكَ عن أصحابِكَ ويَحولوا بيْنَكَ وبَينَهم؛ "حتى يَلحَقَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأصحابُه. قالَ: يا سَلَمةُ، إنْ كُنتَ تُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ، وتَعلَمُ أنَّ الجَنَّةَ حَقٌّ والنَّارَ حَقٌّ، فلا تَحُلْ"، فلا تَحجِزْ وتَمنَعْ، "بيْني وبيْنَ الشَّهادةِ"، بالقَتلِ في سَبيلِ اللهِ، "فخَلَّيتُه" يَعني: خَلَّيتُ بيْنَه وبيْنَ المُشرِكينَ، ومَضى إليهم، "فالْتَقى هو وعَبدُ الرَّحمنِ" الفَزاريُّ المُشرِكُ، "فعَقَرَ بعَبدِ الرَّحمنِ فَرَسَه"، فَضَرَبَ الأخرَمُ الصَّحابيُّ قَوائِمَ فَرَسِ عَبدِ الرَّحمنِ الفَزاريِّ، "وطَعَنَه عَبدُ الرَّحمنِ فقَتَلَه"، فاستُشهِدَ الأخرَمُ، "وتَحَوَّلَ على فَرَسِه"، ورَكِبَ عَبدُ الرَّحمنِ الفَزاريُّ على فَرَسِ الأخرَمِ لِيَهرُبَ به، "ولَحِقَ أبو قَتادةَ فارِسُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعَبدِ الرَّحمنِ فطَعَنَه"، أي: طَعَنَ أبو قَتادةَ عَبدَ الرَّحمنِ الفَزاريَّ، "فقَتَلَه"، فماتَ عَبدُ الرَّحمنِ المُشرِكُ، قالَ سَلَمةُ رَضِيَ اللهُ عنه: "فوَالذي كَرَّمَ وَجهَ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، اتَّبَعتُهم أعْدُو على رِجلَيَّ" يعني تَبِعتُ المُشرِكينَ وأنا أجْرِي بسُرعةٍ على رجليَّ لا أركبُ شيئًا، "حتى ما أرى وَرائي مِن أصحابِ مُحمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ولا غُبارِهم شَيئًا"، يَعني: أنَّه أمْعَنَ في تَتَبُّعِ الأعداءِ والجَريِ خَلفَهم، إلى أنْ بَعُدَ عن أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بُعدًا شاسِعًا، بحيثُ لا يَرى خَلفَه منهم أحَدًا، ولا مِن غُبارِهم شَيئًا، "حتى يَعدِلوا"؛ خَشيةَ أنْ يَميلوا عنِ الطَّريقِ، "قَبلَ غُروبِ الشَّمسِ إلى شِعْبٍ"، وهو الطَّريقُ بيْن جَبلَيْنِ، "فيه ماءٌ، يُقالُ له: ذا قَرَدٍ"، وهو على مَسافةِ يَومٍ مِنَ المَدينةِ، على بُعدِ ثَلاثينَ كيلو مترًا تَقريبًا منها، بيْنَ المَدينةِ وخَيبَرَ، "لِيَشرَبوا منه وهم عِطاشٌ"، والمَعنى: أنَّه قَصَدَ تَتَبُّعَهم قَبْلَ أنْ يَصِلوا إلى مَوضِعِ الماءِ، لِيَمنَعَهم منه، قَبلَ أنْ يَنشَطوا مَرَّةً أُخرى، قالَ سَلَمةُ: "فنَظَروا إلَيَّ أعْدُو" وأنا أجْرِي بسُرعةٍ وَراءَهم، فحَلَّيتُهم عنه، يَعني أجلَيتُهم عنه وطَرَدتُهم، "فما ذاقوا منه قَطرةً، قالَ: ويَخرُجونَ فيَشتَدُّونَ"، يَتَحامَلونَ على أنفُسِهم مِنَ التَّعَبِ، "في ثَنيَّةٍ"، وهي طَريقٌ صاعِدٌ في الجَبَلِ، أو مُنعَطَفٌ بيْنَ جَبلَيْنِ، "فأعْدُو" فأَجْري وأُسرِعُ "فألْحَقُ رَجُلًا مِنهم فأصُكُّه"، فأطْعُنُه وَأْضرِبُه، "بسَهمٍ في نُغْضِ كَتِفِه"، وهو الرَّقيقُ اللَّيِّنُ مِن عَظمِ الكَتِفِ، أو في عَرْضِ كَتِفِه، "قُلتُ: خُذْها وأنا ابنُ الأكوَعِ، واليَومُ يَومُ الرُّضَّعِ"، وهو يَقصِدُ الرَّجُلَ الذي ضَرَبَه في أوَّلِ الرِّوايةِ، واختارَ صِيغةَ المُضارِعِ لاستِحضارِ حالِ الواقِعةِ، فقالَ له الرَّجُلُ الذي أُصِيبَ: "يا ثَكِلَتْه أُمُّه! " كَأنَّه قالَ: يا مَن ثَكِلَتْه أُمُّه، والثُّكلُ: فَقدُ الوَلَدِ، ومُرادُه الدُّعاءُ عليه بالمَوتِ، "أكْوَعُهُ بُكرةَ؟! " والمَعنى أأنتَ المُسَمَّى بابنِ الأكوَعِ مِن أوَّلِ يَومِنا؟! والبُكرةُ: أوَّلُ النَّهارِ، "قُلتُ: نَعَمْ"، أنا الأكوَعُ الذي كُنتُ أضْرِبُكم صَباحًا وبُكرةً، "يا عَدُوَّ نَفْسِه، أكْوَعُكَ بُكرةَ"، أي: أنا الذي طَعَنَكَ وأصابَكَ. قالَ سَلَمةُ: "وأردَوْا فَرَسَيْنِ على ثَنيَّةٍ"، والمَعنى: أنَّ المُشرِكينَ الفارِّينَ تَرَكوا مِن خَلفِهم فَرَسَيْنِ بَعدَ أنْ أجْهَدوهما وأتْعَبوهما في أثناءِ فِرارِهم، "فجِئتُ بهما أسوقُهما" أمْشي بالفَرسَيْنِ، "إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قالَ: ولَحِقَني عامِرٌ" وهو عَمُّه عامِرُ بنُ الأَكْوَعِ "بسَطيحةٍ"، وهي إناءٌ مِن جُلودٍ رُكِّبَ بَعضُها فَوقَ بَعضٍ، "فيها مَذْقةٌ مِن لَبَنٍ" يعني: فيها قَليلٌ مِن لَبَنٍ مَمزوجٍ بماءٍ، "وسَطيحةٍ فيها ماءٌ، فتَوضَّأتُ وشَرِبتُ، ثمَّ أتَيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو على الماءِ الذي حَلَّأتُهم منه"، الذي أجلَيتُهم وأبعَدتُهم عنه، "فإذا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قد أخَذَ تلك الإبلَ، وكُلَّ شَيءٍ اسْتَنقَذتُه مِنَ المُشرِكينَ، وكُلَّ رُمحٍ وبُردةٍ"، فأخَذَ كُلَّ ما أوقَعَه مِنَ المُشرِكينَ، وقد جَعَلَ عليه عَلاماتٍ بالحِجارةِ؛ عَرَفَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وجَمَعَها، "وإذا بِلالٌ نَحَرَ ناقةً مِنَ الإبِلِ الذي اسْتَنقَذتُ" وأرجَعتُها "مِنَ القَومِ، وإذا هو يَشوي لِرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن كَبِدِها وسَنامِها"، والسَّنامُ: هو الجُزءُ البارِزُ أعلى الجَمَلِ، "قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، خَلِّني فأنْتَخِبَ مِنَ القَومِ مِئةَ رَجُلٍ"، والمَعنى: اتْرُكْني فأختارَ مِئةَ رَجُلٍ سَريَّةً وجَيشًا صَغيرًا، "فأتَّبِعَ القَومَ، فلا يَبقى مِنهم مُخبِرٌ إلَّا قَتَلتُه"، فلا أُبقي مِنهم أحَدًا يُخبِرُ قَومَهم عنهم، "فضَحِكَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حتى بَدَتْ نَواجِذُه"، وهي أنْيابُه، وقيلَ: أضْراسُه، "في ضَوءِ النَّارِ"، فلَمَعَتْ في ضَوئِها، "فقالَ" رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "يا سَلَمةُ، أتُراكَ كُنتَ فاعِلًا؟ " أتَظُنُّكَ كُنتَ فاعِلًا ذلك لو أذِنتُ لكَ فيه؟ "قُلتُ: نَعَمْ"، أظُنُّني كُنتُ فاعِلًا ذلك لو أذِنتَ لي، "والذي أكرَمَكَ"، يُقسِمُ باللهِ عزَّ وجلَّ الذي كَرَّمَ نَبيَّه بالرِّسالةِ وشَرَفِ النُّبوَّةِ؛ فهو يُؤكِّدُ لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بهذا القَسَمِ أنَّه كانَ سَيَتبَعُهم لو أذِنَ له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "فقالَ" النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "إنَّهمُ الآنَ لَيُقرَوْنَ في أرضِ غَطَفانَ"، يَعني: أنَّهم قد بَلَغوا بَني غَطَفانَ، وهم يُكرِمونَهم بتَقديمِ الطَّعامِ وغَيرِه، وهذا إشارةٌ إلى أنَّ المُشرِكينَ الفارِّينَ قد دَخَلوا في جِوارِ قَبيلةٍ أُخرى، وهذا يُحَوِّلُ مَسارَ المَعرَكةِ مِن تَتبُّعٍ لِهارِبينَ، إلى قِتالِ قَبيلةٍ بأكمَلِها، "قالَ" سَلَمةُ: "فجاءَ رَجُلٌ مِن غَطَفانَ، فقالَ: نَحَرَ لهم فُلانٌ جَزورًا" فأخبَرَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأخبارِ الهاربِينَ وأنَّهم قد ذَبَحتْ قَبيلةُ غَطَفانَ لهم ناقةً، أو جَمَلًا، وهذا تأْكيدٌ لِكَلامِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "فلَمَّا كَشَفوا جِلدَها" وهذا كِنايةٌ عن سَلخِها، "رَأوْا غُبارًا" تُرابًا ظاهِرًا في السَّماءِ، "فقالوا: أتاكُمُ القَومُ"، أيِ: جاءَكُمُ المُسلِمونَ، "فخَرَجوا هارِبينَ" عن مَنزِلِهم الذي نُحِرَ لهم فيه، "فلَمَّا أصبَحْنا قالَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: كان خَيرَ فُرسانِنا اليَومَ أبو قَتادةَ"، والفارِسُ هو مَن يُقاتِلُ على فَرَسِه، ويَكونُ له ثَلاثةُ أسهُمٍ مِنَ الغَنيمةِ؛ سَهمانِ لِفَرَسِه، وسَهمٌ لِنَفسِه، "وخَيرَ رَجَّالَتِنا سَلَمةُ"، والرَّجَّالةُ: جَمعُ راجِلٍ، وهو مَن يُقاتِلُ على رِجلِه، ويَكونُ له سَهمٌ واحِدٌ، "قالَ" سَلَمةُ بنُ الأكوَعِ: "ثم أعْطاني رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سَهمَيْنِ: سَهمَ الفارِسِ، وسَهمَ الرَّاجِلِ، فجَمَعَهما لي جَميعًا"، وهذا مَحمولٌ على أنَّ الزَّائِدَ على سَهمِ الرَّاجِلِ كانَ نَفلًا، وهو حَقيقٌ باستِحقاقِه رَضِيَ اللهُ عنه؛ لِبَديعِ صُنْعِه في هذه الغَزوةِ، وقيلَ: أعطاهُ سَهمَ الفارِسِ؛ لِأنَّه أغْنى ما لم تُغنِ فَوارِسُ، ولِأنَّه استَنقَذَ الغَنائِمَ قَبلَ أنْ يَلحَقَه الجَيشُ، وقيلَ: يُحتَمَلُ أنَّه أعطاهُ له مِن الخُمُسِ، "ثمَّ أرْدَفَني رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ"، أركَبَني "وَراءَه على العَضْباءِ راجِعينَ إلى المَدينةِ"، والعَضباءُ: لَقَبُ ناقةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والعَضباءُ: مَشقوقةُ الأُذُنِ، ولم تَكُنْ ناقَتُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كذلك، وإنَّما هو لَقَبٌ لَزِمَها. "قالَ" سَلَمةُ: "فبيْنما نحن نَسيرُ، قالَ: وكانَ رَجُلٌ مِنَ الأنصارِ لا يُسبَقُ شَدًّا"، أي: سَريعَ الجَرْيِ، لا يَسبِقُه غَيرُه، "فجَعَلَ يَقولُ" هذا الرَّجُلُ: "ألَا مُسابِقٌ إلى المَدينةِ؟ هل مِن مُسابِقٍ؟ فجَعَلَ يُعيدُ ذلك"، "قالَ" سَلَمةُ: "فلَمَّا سَمِعتُ كَلامَه قُلتُ: أمَا تُكرِمُ كَريمًا ولا تَهابُ شَريفًا؟ " والمَعنى: ألَا تَستَحي ولا تَخافُ ولا تَحتَرِمُ أحَدًا؟ قالَ الرَّجُلُ: "لا، إلَّا أنْ يَكونَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. قالَ: قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، بأبي أنتَ وأُمِّي، ذَرْني فَلأُسابِقَ الرَّجُلَ"، يَستَأذِنُ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَترُكَه يُسابِقُ هذا الرَّجُلَ، "قالَ" النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "إنْ شِئتَ"، بمَعنى: الأمرُ مَتروكٌ لِرَغبَتِكَ في المُسابَقِة معه، "قالَ" سَلَمةُ لِلرَّجُلِ: "قُلتُ: اذهَبْ إليكَ" تَنَحَّ عَنِّي وتَباعَدْ في الذَّهابِ قَبْلي لِأُدرِكَكَ، "وثَنَيتُ رِجلَيَّ فطَفَرتُ"، فوَثَبتُ وقَفَزتُ مِن مَكاني لِأَجْريَ وَراءَه، "فعَدَوتُ، قال: فرَبَطتُ عليه شَرَفًا أو شَرَفَيْنِ أسْتَبقي نَفَسي"، أيْ: حَبَستُ نَفْسي ومَنَعتُها مِنَ الجَري الشَّديدِ إلى أنْ سَبَقَني لِمَسافةِ شَرَفٍ أو شَرَفَيْنِ، والشَّرَفُ: ما ارتَفَعَ مِنَ الأرضِ، أو هو الشَّوطُ الواحِدُ مِنَ السِّباقِ، ومَعناه: تَرَكتُه مِقدارًا مِنَ الزَّمَنِ، "ثمَّ عَدَوتُ في إثْرِه"، أي: جَرَيتُ خَلفَه، "فرَبَطتُ عليه شَرَفًا أو شَرَفَيْنِ" وفي رِوايةِ مُسلِمٍ: "فرَبَطتُ عليه شَرَفًا أو شَرَفَيْنِ أستَبْقي نَفَسي"؛ لِئلَّا يَنقَطِعَ مِن شِدَّةِ الجَرْيِ، ولَعَلَّ المُرادَ: إنِّي لم أبذُلْ في بِدايةِ الأمْرِ قُصارى قُوَّتي في الجَريِ؛ لِئلَّا يَنقَطِعَ نَفَسي، بلِ استَبقَيتُه لِيُمكِنَ لي الإسراعُ عِندَما أقتَرِبُ مِنَ الرَّجُلِ، "ثمَّ إنِّي رَفَعتُ" يعني: أسرَعتُ إسراعًا شَديدًا؛ "حتى ألْحَقَه"؛ لِكَي ألحَقَه وأُدرِكَه، "قال: فأصُكُّهُ بيْنَ كَتِفَيْه" فأضربُه بيَدَيَّ بيْنَ كَتِفَيْه، تأْكيدًا على لُحوقِه به، "قُلتُ: قد سُبِقتَ واللهِ"، والمَعنى: قد جَعَلتُكَ مَسبوقًا، وأنا السَّابِقُ لكَ، "قالَ" الرَّجُلُ: "أنا أظُنُّ"، أيْ: أظُنُّ كذلك أنَّكَ قد سَبَقتَني، "قالَ" سَلَمةُ: "فسَبَقتُه إلى المَدينةِ؛ فواللهِ ما لَبِثْنا"، ما جَلَسْنا بَعدَما دَخَلْنا المَدينةَ، "إلَّا ثَلاثَ لَيالٍ حتى خَرَجْنا إلى خَيبَرَ مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ"، وخَيبَرُ: قَريةٌ يَسكُنُها يَهودٌ على ثَمانيةِ بُرُدٍ مِنَ المَدينةِ، مِن جِهةِ الشَّامِ، وكانَتْ غَزوةُ خَيبَرَ في السَّنةِ السَّابِعةِ مِنَ الهِجرةِ بيْن المُسلِمينَ واليَهودِ، "فجَعَلَ عَمِّي عامِرٌ يَرتَجِزُ بالقَومِ"، يُنشِدُ الشِّعرَ، ويَقولُ: "تاللهِ لولا اللهُ ما اهتَدَيْنا * ولا تَصَدَّقْنا ولا صَلَّيْنا"، والمعنى: لولا هِدايَتُكَ لنا يا رَبَّنا وبإرسالِكَ نَبيَّكَ ما اهتَدَيْنا إلى الحَقِّ والإسلامِ وأعمالِه مِنَ الصَّدَقةِ والصَّلاةِ، "ونحن عن فَضلِكَ ما استَغنَيْنا * فثَبِّتِ الأقدامَ إنْ لاقَيْنا * وأنزِلَنْ سَكينةً علينا"، يَطلُبُ الثَّباتَ والطُّمأنينةَ وعَدَمَ الفَزَعِ عِندَ لِقاءِ العَدُوِّ، "فقالَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: مَن هذا؟ قالَ: أنا عامِرٌ" ابنُ الأكوَعِ، "فقالَ" النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "غَفَرَ لكَ رَبُّكَ"، لَمَّا أعجَبَه الشِّعرُ، "قالَ" سَلَمةُ رَضِيَ اللهُ عنه: "وما استَغفَرَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِإنسانٍ يَخُصُّه إلَّا استُشهِدَ" وماتَ شَهيدًا في سَبيلِ اللهِ تعالَى، "فنادَى عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ وهو على جَمَلٍ له: يا نَبيَّ اللهِ، لولا ما مَتَّعتَنا بعامِرٍ"، والمَعنى: أنَّه تَمَنَّى أنْ لو يُطيلُ اللهُ في عُمُرِ عامِرِ بنِ الأكوَعِ؛ لِيَتمَتَّعوا بصَوتِه وإنشادِه؛ لِأنَّه عَلِمَ أنَّ استِغفارَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ له يُوجِبُ قَتلَه شَهيدًا، قال: "فلَمَّا قَدِمْنا خَيبَرَ، قالَ: خَرَجَ مَلِكُهم" وهو رَئيسُهم، واسمُه: "مَرحَبٌ، يَخطِرُ بسَيفِه" يَضرِبُ بسَيفِه، ويُشيرُ به فيَرفَعُه تارةً ويُنزِلُه أُخرى، "ويَقولُ: قد عَلِمَتْ خَيبَرُ أنِّي مَرحَبُ * شاكي السِّلاحِ"، أيْ: قَويُّ السِّلاحِ، "بَطَلٌ مُجَرَّبُ" بالشَّجاعةِ وقَهْرِ الفُرسانِ، "إذا الحُروبُ أقبَلَتْ تَلَهَّبُ"، يَعني تَلتَهِبُ وتَشتَعِلُ نارُها، "وبَرَزَ له عَمِّي عامِرٌ"، فخَرَجَ له عامِرٌ لِيُبارِزَه، فقالَ: "قد عَلِمَتْ خَيبَرُ أنِّي عامِرُ * شاكي السِّلاحِ بَطَلٌ مُغامِرُ" يَركَبُ غَمَراتِ الحَربِ وشَدائِدَها، ويُلقي بنَفْسِه فيها، "قال" سَلَمةُ: "فاختَلَفا ضَربَتَيْنِ"، فضَرَبَ كُلٌّ منهما الآخَرَ ضَربةً في ضَربتَيْنِ مُتَعاقِبتَيْنِ، "فوَقَعَ سَيفُ مَرحَبٍ في تُرْسِ عامِرٍ"، وهو الدِّرعُ التي يُتَّقي بها ضَرَباتُ السَّيفِ، "وذَهَبَ عامِرٌ يَسفُلُ له"، أي: قَصَدَ عامِرٌ أنْ يَضرِبَه مِن أسفَلِه، "فرَجَعَ سَيفُه على نَفْسِه فقَطَعَ أَكْحَلَه"، والمَعنى: أنَّ عامِرًا أخطَأ في ضَربِ السيَّفِ؛ فضَرَبَ نَفْسَه وقَطَعَ عِرقَه الأَكْحَلَ، وهو عِرقٌ في البَدَنِ في كُلِّ عُضوٍ وَريدٌ منه، إذا قُطِعَ سالَ الدَّمُ بغَزارةٍ حتى يَموتَ صاحِبُه، "فكانَتْ فيها نَفْسُه" يَعني: فكانتْ سَبَبًا لِمَوتِه، "قالَ سَلَمةُ: فخَرَجتُ" مِن مَكاني، "فإذا أنا نَفَرٌ مِن أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَقولونَ: بَطَلَ عَمَلُ عامِرٍ" يَزعُمونَ أنَّه قد حَبِطَ عَمَلُه، "قَتَلَ نَفْسَه"، زَعمًا منهم أنَّه قَتَلَ نَفْسَه بالسَّيفِ الذي ارتَدَّ عليه، فكَأنَّه قَتَلَ نَفْسَه، وقَتلُ النَّفْسِ حَرامٌ، "فأتَيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأنا أبكي، فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، بَطَلَ عَمَلُ عامِرٍ؟ قالَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: مَن قالَ ذلك؟ قالَ: قُلتُ: ناسٌ مِن أصحابِكَ، قالَ: كَذَبَ مَن قالَ ذلك"، والكذب هنا بمعنى الخَطأِ، يعني: أخطأَ مَن زَعَمَ ذلك، "بلْ له أجْرُه مَرَّتَيْنِ"، أجْرٌ لِجِهادِه، وأجرٌ لِشَهادَتِه. قالَ سَلَمةُ رَضِيَ اللهُ عنه: "ثمَّ أرسَلَني إلى علِيٍّ" وهو ابنُ أبي طالِبٍ، "وهو أرْمَدُ" به وَجَعٌ في العَينِ، فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "لَأُعطيَنَّ الرَّايةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللهَ ورَسولَه، أو يُحِبُّه اللهُ ورَسولُه"، والرَّايةُ هي عَلَمُ الجَيشِ الذي يُحمَلُ في الحُروبِ، والمَقصودُ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سَوفَ يُعطي الرَّايةَ لِرَجُلٍ يُحِبُّ اللهَ ويُحِبُّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكذلك يُحِبُّ اللهُ هذا الرَّجُلَ ويُحِبُّه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهذه شَهادةٌ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَتَمنَّاها كُلُّ مُسلِمٍ، "فأتَيتُ عَلِيًّا، فجِئتُ به أقودُه"، آخِذًا بيَدِه إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "وهو أرْمَدُ، حتى أتَيتُ به رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فبَسَقَ في عَينَيْه فبَرَأ"، والمعْنَى: تَفَلَ رَسولُ اللهِ مِن رِيقِه في عَينَيْ علِيٍّ رَضِيَ اللهُ عنه فشُفيَتا، "وأعطاه الرَّايةَ، وخَرَجَ مَرحَبٌ فقالَ: قد عَلِمتْ خَيبَرُ أنِّي مَرحَبُ * شاكي السِّلاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ، إذا الحُروبُ أقبَلَتْ تَلَهَّبُ"، فكَرَّرَ مَرحَبٌ قَولَه؛ افتِخارًا بنَفْسِه، "فقالَ علِيٌّ: أنا الذي سَمَّتْني أُمِّي حَيدَرَهْ"، والحَيدَرةُ مِن أسماءِ الأسَدِ، سُمِّيَ بذلك لِغِلَظِه وقُوَّتِه، ومُرادُه: أنا الأسَدُ في جَراءَتِه وإقدامِه وقُوَّتِه، "كَلَيثِ الغاباتِ كَريهُ المَنظَرَهْ" أُشبِهُ أسَدَ الغاباتِ في فَظاعةِ شَكلِه عِندَ الغَضَبِ، "أُوَفِّيهم بالصَّاعِ كَيلَ السَّندَرَهْ" يعني: أقتُلُ الأعداءَ قَتلًا ذَريعًا واسِعًا وأُوَفِّيهم حَقَّهم مِنَ القَتلِ، والسَّندَرةُ: مِكيالٌ واسِعٌ، وقيلَ: العَجَلةُ، فالمَعنى: أقتُلُهم قَتلًا عَجِلًا، وقيلَ: شَجَرةٌ قَويَّةٌ، وهي الصَّنوبَرُ، "قالَ" سَلَمةُ: "فضَرَبَ رَأسَ مَرحَبٍ فقَتَلَه، ثم كانَ الفَتحُ على يَدَيْه"، فحَدَثَ فَتحُ خَيبَرَ على يَدَيْ علِيٍّ رَضِيَ اللهُ عنه
وفي الحَديثِ: بَيانُ ما كانَ عليه أصْحابُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن إيثارِ الآخِرةِ على الدُّنيا، والشَّهادةِ في سَبيلِ اللهِ على الحَياةِ
وفيه: الثَّناءُ على الشُّجعانِ وسائِرِ أهلِ الفَضائِلِ، ولا سِيَّما عِندَ صَنيعِهمُ الجَميلَ؛ لِمَا فيه مِنَ التَّرغيبِ لهمْ ولِغَيرِهم في الإكثارِ مِن ذلك الجَميلِ، وهذا كُلُّه في حَقِّ مَن يَأْمَنُ الفِتنةَ عليه بإعجابٍ ونَحوِه
وفيه: بَيانُ شَجاعةِ سَلَمةَ بنِ الأكوَعِ ومَنقَبتِه
وفيه: أنَّ لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُوزِّعَ الغَنائِمَ كيف شاءَ على المُقاتِلينَ، وأنْ يَزيدَ مَنْ كانَ له بَلاءٌ في القِتالِ
وفيه: بَيانُ اختِلافِ أسْهُمِ المُحارِبينَ في الجِهادِ؛ لاختِلافِ دَورِ كُلٍّ مِنهم، ولِاختِلافِ جُهدِه
وفيه: فَضلٌ ومَنقَبةٌ لِعلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنه
وفيه: قُوَّةُ العَلاقةِ بيْن القائدِ وأتباعِه؛ وتَجلَّى ذلك في مُبايَعتِهم على الموتِ، وسُرْعةِ إجابَتِهم طَلَبَ القائدِ، وعَدَمِ التَّردُّدِ
وفيه: أنَّ الصِّدقَ في الإيمانِ سَبيلٌ إلى تَحصيلِ رِضَا الرَّحمنِ، وتأْييدِه