حديث شداد بن أوس 17
مستند احمد
حدثنا حسن الأشيب، قال: حدثنا ابن لهيعة، قال: حدثناه عبيد الله بن المغيرة، عن يعلى بن شداد بن أوس، قال: قال شداد بن أوس: «كان أبو ذر يسمع الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم [ص:361] فيه الشدة، ثم يخرج إلى قومه يسلم عليهم، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرخص فيه بعد، فلم يسمعه أبو ذر، فيتعلق أبو ذر بالأمر الشديد»
المالُ مِنَ الفِتَنِ الَّتي ابْتلَى اللهُ به عِبادَه، والتَّقلُّلُ منه عِصمةٌ مِن فِتنتِه؛ وَلذلكَ لم يُحِبَّه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولمْ يَأتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مالًا إلَّا بَذَلَه في أوجُهِ الخيرِ
وفي هذا الحَديثِ يَحْكي الصَّحابيُّ أبو ذَرٍّ جُنْدبُ بنُ جُنادةَ الغِفاريُّ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه كان مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فلمَّا أبْصَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جَبلَ أُحُدٍ -وهو جبَلٌ شَمالَ المدينةِ المُنوَّرةِ، على بُعْدِ (4) كم مِن المسجِدِ النَّبويِّ- أخبَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه لا يُحِبُّ أنْ يكونَ في مِلْكِه مِثلُ جَبلِ أُحدٍ ذَهَبًا ويَبْقى عندَه منه دِينارٌ فَوقَ ثَلاثةِ أيَّامٍ، إلَّا دِينارًا يَجعَلُه لِسَدادِ دَينٍ عليه
ثُمَّ أخبَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ المُكثِريِن مِنَ المالِ في الدُّنيا همْ أقلُّ النَّاسِ ثَوابًا في الآخِرةِ، إلَّا مَن صرَفَ هذا المالَ عَنِ اليمينِ والشِّمالِ وأمامَه، أي: في كافَّةِ وُجوهِ الخيرِ. وكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَمشي هو وأبو ذرٍّ الغِفاريُّ رَضيَ اللهُ عنه، فتَرَكَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأمَرَه أنْ يَلزَمَ مَكانَه ولا يَبْرَحَه، وتَقدَّمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى مَكانٍ غَيرِ بَعيدٍ، فسَمِعَ أبو ذَرٍّ رَضيَ اللهُ عنه صَوتًا، فأرادَ أنْ يَذهَبَ إليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثُمَّ تَذكَّرَ أمْرَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ له بأنْ يَلزَمَ مَكانَه، فمَنَعَه هذا مِن الذَّهابِ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فلمَّا جاءَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال له: يا رسولَ اللهِ، ما الصَّوتُ الَّذي سَمِعْتُه؟ فقال له صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «وهلْ سَمعْتَ؟» فقال أبو ذَرٍّ رَضيَ اللهُ عنه: نَعَمْ، فأخْبَرَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنَّ هذا الصَّوتَ كان جِبريلُ عليه السَّلامُ، جاءهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وبشَّرَه أنَّ مَن مات مِن أُمَّتِه على التَّوحيدِ الخالِصِ، ولا يُشرِكُ باللهِ شَيئًا؛ أدْخَلَه اللهُ عزَّ وجلَّ الجنَّةَ. فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لجِبريلَ عليه السَّلامُ: «وإنْ فَعَلَ كَذَا وكَذَا؟» وفي رِوايةِ الصَّحيحينِ: «قلْتُ: يا جِبريلُ، وإنْ زَنى وإنْ سَرَقَ؟» فقال جِبريلُ عليه السَّلامُ: «نَعَم»، والمعْنى: أنَّ مَن ماتَ على التَّوحيدِ، فإنَّ مَصيرَه إلى الجنَّةِ، وإنْ نالَهُ قبْلَ ذلِك مِن العُقوبةِ ما نالَه، إلَّا أنَّه لا يُخلَّدُ في النَّارِ
وفي الحديثِ: الاهتِمامُ بأَمْرِ الدَّينِ وأدائِه، والتَّرغيبُ في الصَّدَقةِ، والحثُّ عليها
وفيه: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان في أَعْلى دَرَجاتِ الزُّهدِ في الدُّنيا، بحيثُ إنَّه لا يُحِبُّ أنْ يَبْقى بيَدِه شَيءٌ مِن الدُّنيا، إلَّا لإنفاقِهِ فيمَن يَستحِقُّه، وإمَّا لإرصادِه لمَن له حَقٌّ
وفيه: بَيانُ أدَبِ أبي ذَرٍّ رَضيَ اللهُ عنه مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وتَرقُّبِه أحوالَه، وشَفَقتِه عليه، حتَّى لا يَدخُلَ عليه أدْنى شَيءٍ ممَّا يَتأذَّى به. وهذا مِن حُسْنِ الأدَبِ مع الأكابرِ، وأنَّ الصَّغيرَ إذا رَأى الكبيرَ مُنفرِدًا لا يَتسوَّرُ عليه، ولا يَجلِسُ معه، ولا يُلازِمُه إلَّا بإذنٍ منه
وفيه: بَيانُ أنَّ امتِثالَ أمْرِ الكبيرِ والوقوفَ عِنده، أَوْلى مِن ارتكابِ ما يُخالِفُه بالرَّأيِ، ولو كان فيما يَقْتضيهِ الرَّأيُ تَوهُّمُ دَفْعِ مَفْسَدةٍ حتَّى يَتحقَّقَ ذلك، فيكونُ دَفْعُ المَفسدةِ أَوْلى
وفيه: فَضْلُ اللهِ على أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأنَّ مُرتكِبَ الكَبيرةِ مِن المُوحِّدين غيرُ مُخلَّدٍ في النَّارِ
وفيه: استِفهامُ التَّابعِ مِن مَتبوعِه على ما يَحصُلُ له فائدةٌ دِينيَّةٌ، أو عِلميَّةٌ، أو غيرُ ذلك، والمُراجَعةُ في العِلمِ بما تَقرَّرَ عندَ الطَّالبِ في مُقابَلةِ ما يَسمَعُه ممَّا يُخالِفُ ذلك