حَدِيثُ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ الْمُرَادِيِّ 1

مستند احمد

حَدِيثُ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ الْمُرَادِيِّ 1

 حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش، قال: غدوت على صفوان بن عسال المرادي أسأله عن المسح على الخفين، فقال: ما جاء بك؟ قلت: ابتغاء العلم، قال: ألا أبشرك؟ ورفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يطلب» فذكر الحديث

جاءَتِ الشَّريعةُ الإسلاميَّةُ بالتَّيسيرِ والتَّرخيصِ في كَثيرٍ مِن أحكامِ العِباداتِ؛ وذلك رَفعًا للحَرَجِ الذي قد يَقَعُ على المُكَلَّفينَ، ومِنَ الرُّخصِ في الوُضوءِ المَسحُ على الخُفَّينِ، وهما ما يُلبَسُ على الرِّجلِ مِن جِلدٍ فإنَّ الأصلَ هو غَسلُ القدَمَينِ في الوُضوءِ

كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]، ولَكِن رُخِّصَ لمَن كان لابسًا للخُفَّينِ أن يَمسَحَ عليهما، وَفقَ شُروطٍ مُحَدَّدةٍ. ويَكونُ المَسحُ بإمرارِ اليَدِ مُبَلَّلةً بقَليلٍ مِنَ الماءِ على الخُفِّ، والمَسحُ على الخُفَّينِ ثَبَتَت مَشروعيَّتُه بأحاديثَ كَثيرةٍ بَلَغَت حَدَّ التَّواتُرِ، وقد جاءَ تَوقيتُ مُدَّةِ المَسحِ على الخُفَّينِ أنَّه يَكونُ ثَلاثةَ أيَّامٍ بلَياليها للمُسافِرِ، ويَومًا ولَيلةً للمُقيمِ، فإذا انقَضَتِ المُدَّةُ انتَهَت مُدَّةُ المَسحِ. وأمَّا إذا كان الشَّخصُ على جَنابةٍ فإنَّه لا يَتَرَخَّصُ بالمَسحِ على الخُفَّينِ، بَل عليه خَلعُهما وغَسلُ قدَمَيه

 وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ زِرُّ بنُ حُبَيشٍ، وهو مُقرِئُ الكوفةِ، أحَدُ كِبارِ التَّابِعينَ، أنَّه أتى صَفوانَ بنَ عَسَّالٍ المُراديَّ رَضيَ اللهُ عنه، وهو صَحابيٌّ مَشهورٌ سَكَنَ الكوفةَ، حَتَّى يَسألَه عنِ المَسحِ على الخُفَّينِ وبَعضِ مَسائِلِ العِلمِ الأُخرى، فيَقولُ: أتَيتُ صَفوانَ بنَ عَسَّالٍ المُراديَّ أسألُه عنِ المَسحِ على الخُفَّينِ، أي: يَسألُه هَل ورَدَ فيه شَيءٌ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أم لا؟ فقال صَفوانُ: ما جاءَ بك يا زِرُّ؟ فقال زِرٌّ: ابتِغاءَ العِلمِ، أي: أتَيتُ إليك طَلَبًا للعِلمِ. فقال له صَفوانُ: إنَّ المَلائِكةَ لتَضَعُ أجنِحَتَها لطالِبِ العِلمِ رِضًا بما يَطلُبُ، أي: ما دُمتَ قَدِمتَ مِن أجلِ العِلمِ فأبشِرْ بهذا الفَضلِ العَظيمِ لطالِبِ العِلمِ؛ حَيثُ إنَّ المَلائِكةَ تَخفِضُ أجنِحَتَها لطالِبِ العِلمِ رِضًا مِنها بما يَطلُبُ. كما في رِوايةٍ أُخرى. ومَعنى وضعِ الجَناحِ مِنَ المَلائِكةِ بَسطُ أجنِحَتِها وفَرشُها لطالِبِ العِلمِ؛ لتَكونَ وِطاءً له ومَعونةً إذا مَشى في طَلَبِ العِلمِ، أو أن يَكونَ ذلك بمَعنى التَّواضُعِ مِنَ المَلائِكةِ تَعظيمًا لحَقِّه وتَوقيرًا لعِلمِه، فتَضُمُّ أجنِحَتَها له وتَخفِضُها عنِ الطَّيَرانِ، أو أن يَكونَ وضعُ الجَناحِ يُرادُ به النُّزولُ عِند مَجالسِ العِلمِ والذِّكرِ لتَستَمِعَ. ثُمَّ قال زِرٌّ: إنَّه قد حَكَّ في صَدري - وحَكَّ الشَّيءُ في النَّفسِ: إذا لَم تَكُنْ مُنشَرِحَ الصَّدرِ به، وكان في قَلبِك مِنه شَيءٌ مِنَ الشَّكِّ والرَّيبِ- المَسحُ على الخُفَّينِ بَعدَ الغائِطِ والبَولِ! والمَعنى: أنَّه وقَعَ في صَدري شَكٌّ أو نَحوُ ذلك بسَبَبِ المَسحِ على الخُفَّينِ بَعدَ الغائِطِ والبَولِ، كَأنَّه استَعظَمَ أن يَمسَحَ الشَّخصُ على الخُفَّينِ بَعدَ الغائِطِ أوِ البَولِ. وكُنتَ امرَأً -أي: يَقصِدُ صَفوانَ بنَ عَسَّالٍ- مِن أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فجِئتُ أسألُك: هَل سَمِعتَه يَذكُرُ في ذلك شَيئًا؟ أي: هَل ذَكَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مَسألةِ المَسحِ على الخُفَّينِ بَعدَ الغائِطِ والبَولِ شَيئًا؟ فقال صَفوانُ: نَعَم، أي: سَمِعتُه يَذكُرُ في ذلك، وأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَأمُرُنا إذا كُنَّا سَفْرًا، أي: مُسافِرينَ، ألَّا نَنزِعَ، أي: لا نَخلَعَ، خِفافَنا ثَلاثةَ أيَّامِ ولَيالَيهنَّ، بَل نَمسَحُ عليها، إلَّا مِن جَنابةٍ، أي: إذا وقَعَ أحَدُنا في جَنابةٍ فإنَّه يَخلَعُ خُفَّيه ويَغسِلُ رِجلَيه مَعَ الغُسلِ. لَكِنْ مِن غائِطٍ وبَولٍ ونَومٍ، أي: ولَكِن لا نَنزِعُها مِن غائِطٍ وبَولٍ ونَومٍ، بَل نَتَوضَّأُ ونَمسَحُ عليهما، وكَلِمةُ لَكِن مَوضوعةٌ للاستِدراكِ؛ وذلك لأنَّه قد تَقدَّمَه نَفيٌ واستِثناءٌ، وهو قَولُه: كان يَأمُرُنا أن لا نَنزِعَ خِفافَنا ثَلاثةَ أيَّامِ ولَياليَهنَّ إلَّا مِن جَنابةٍ، ثُمَّ قال: لَكِنْ مِن بَولٍ وغائِطٍ ونَومٍ، فاستَدرَكَه بلَكِن ليُعلَمَ أنَّ الرُّخصةَ إنَّما جاءَت في هذا النَّوعِ مِنَ الأحداثِ دونَ الجَنابةِ. ثُمَّ سَألَ زِرٌّ أسئِلَتَه الأُخرى التي جاءَ مِن أجلِها، فقال: هَل سَمِعتَه يَذكُرُ في الهَوى شَيئًا؟ أي: هَل سَمِعتَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَذكُرُ في أمرِ الهَوى، أي: المَحَبَّةِ والمَيلِ، وهَوى النَّفسِ مَيلُها إلى الشَّيءِ وحُبُّها له، فقال صَفوانُ: نَعَم، أي: نَعَم سَمِعتُه، وذلك أنَّا كُنَّا مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سَفَرٍ، فبَينا نَحنُ عِندَه، أي: عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، إذ ناداه أعرابيٌّ -والأعرابُ هم مَن يَسكُنونَ الباديةَ- بصَوتٍ له جَهْوَريٍّ، أي: بصَوتٍ قَويٍّ عالٍ: يا مُحَمَّدُ! فأجابَه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على نَحوٍ مِن صَوتِه، أي: بصَوتٍ قَويٍّ عالٍ، هاؤُمْ! أي: تَعالَ، وهو صَوتٌ يُصَوَّتُ به فيُفهَمُ مِنه مَعنى خُذْ. وإنَّما رَفعَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صَوتَه في جَوابِ الأعرابيِّ، مِن بابِ الشَّفَقةِ عليه لئَلَّا يَحبَطَ عَمَلُه؛ وذلك لما جاءَ مِنَ الوعيدِ في رَفعِ الصَّوتِ عِندَ رَسولِ اللهِ، فعَذَرَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لجَهلِه وقِلَّةِ عِلمِه، ورَفعَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صَوتَه حَتَّى كان فوقَ صَوتِ الأعرابيِّ أو مِثلَه لشِدَّةِ رَأفتِه وشَفقَتِه على أُمَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال الصَّحابةُ للأعرابيِّ: اغضُضْ مِن صَوتِك! أي: اخفِضْ صَوتَك، وغَضُّ الصَّوتِ: إخفاؤُه؛ إنَّك عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم! وقد نُهِيتَ عن هذا، أي: وقد جاءَ الأمرُ بخَفضِ الصَّوتِ عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والنَّهيُ عن رَفعِ الصَّوتِ عِندَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات: 2، 3]، فقال الأعرابيُّ: واللهِ لا أغضُضُ، أي: لا أخفِضُ صَوتي! وهذا مِن جَفاءِ الأعرابِ. ثُمَّ قال الأعرابيُّ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: المَرءُ يُحِبُّ القَومَ ولمَّا يَلحَقُ بهم؟ أي: لَم يَلحَقْهم في الطَّاعةِ والعِبادةِ والخَيرِ، فكَيف حالُه أو شَأنُه يا رَسولَ اللهِ؟ وفي رِوايةٍ: ولَم يَعمَلْ بمِثلِ عَمَلِهم! فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: المَرءُ مَعَ مَن أحَبَّ يَومَ القيامةِ، أي: أنَّ المَرءَ يَكونُ مَعَ مَن أحَبَّهم وإن لَم يَبلُغْ عَمَلَهم! ولا يَلزَمُ مِن كَونِه مَعَهم أن تَكونَ مَنزِلَتُه وجَزاؤُه مِثلَهم مِن كُلِّ وَجهٍ. فما زالَ يُحَدِّثُنا. وهذا مِن قَولِ زِرِّ بنِ حُبَيشٍ، كما بُيِّنَ في رِوايةٍ أُخرى أنَّ صَفوانَ ما زالَ يُحَدِّثُهم حَتَّى ذَكَر لَهم بابًا مِن قِبَلِ، أي: مِن جانِبِ، المَغرِبِ مَسيرةُ عَرضِه -وعَرضُ الشَّيءِ: خِلافُ طولِه، وإنَّما خُصَّ العَرضُ بالذِّكرِ؛ لأنَّه إذا كان هذا صِفةَ عَرضِه الذي هو دائِمًا دونَ الطُّولِ في الغالِبِ، فما ظَنُّك بالطُّولِ الذي هو أكثَرُ مِنه- أو يَسيرُ الرَّاكِبُ في عَرضِه أربَعينَ أو سَبعينَ عامًا! قال سُفيانُ، وهو أحَدُ رواةِ الحَديثِ: قِبَلَ الشَّامِ، خَلَقَه اللهُ، أي: خَلقَ اللهُ تعالى هذا البابَ يَومَ خَلقَ السَّمَواتِ والأرضَ، مَفتوحًا يَعني للتَّوبةِ، لا يُغلَقُ حَتَّى تَطلُعَ الشَّمسُ مِنه. والمَقصودُ به: أنَّه جَعلَ بابَ التَّوبةِ مَفتوحًا لعِبادِه مَهما أذنَبوا وقَصَّروا لا يُغلَقُ عنهم هذا البابُ حَتَّى تَطلُعَ الشَّمسُ مِن مَغرِبِها. فإذا طَلَعَتِ الشَّمسُ مِن مَغرِبها أُغلِقَ بابُ التَّوبةِ
وفي الحَديثِ مَشروعيَّةُ الذَّهابِ إلى أهلِ العِلمِ وسُؤالِهم عن أحكامِ الدِّينِ
وفيه سُؤالُ العالمِ للطَّالِبِ عن سَبَبِ مَجيئِه
وفيه فضلُ طالِبِ العِلمِ
وفيه تَواضُعُ المَلائِكةِ لطالِبِ العِلمِ
وفيه أنَّ الطَّالبَ إذا شَكَّ في الشَّيءِ فحَقُّه أن يُراجِعَ أهلَ العِلمِ
وفيه الحِرصُ على سُؤالِ الأكابرِ مِن أهلِ العِلمِ ومَن كان أقرَبَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
وفيه مَشروعيَّةُ المَسحِ على الخُفَّينِ
وفيه بَيانُ مُدَّةِ المَسحِ على الخُفَّينِ للمُقيمِ والمُسافِرِ
وفيه أنَّ الغائِطَ والبَولَ والنَّومَ مِنَ الأحداثِ
وفيه أنَّ الجُنُبَ لا يَتَرَخَّصُ برُخصةِ المَسحِ على الخُفَّينِ
وفيه تَواضُعُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وجُلوسُه مَعَ أصحابِه
وفيه حِرصُ الصَّحابةِ على الجُلوسِ مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
وفيه بَيانُ جَفاءِ بَعضِ الأعرابِ
وفيه احتِمالُ العالمِ لطُلَّابِه والصَّبرُ على أذاهم؛ لِما يُرجى لَهم مِن حَميدِ العاقِبةِ والإصلاحِ والنَّفعِ
وفيه بَيانُ شَفقةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على أُمَّتِه
وفيه بَيانُ النَّهيِ عن رَفعِ الصَّوتِ عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
وفيه فَضلُ الحُبِّ في اللهِ تعالى
وفيه فَضلُ اللهِ تعالى على عِبادِه؛ حَيثُ يُلحِقُ الشَّخصَ القَليلَ العَمَلِ بكَثيرِ العَمَلِ بسَبَب حُبِّه له
وفيه مَشروعيَّةُ التَّحديثِ في السَّفَرِ
وفيه عَظيمُ رَحمةِ اللهِ لعِبادِه؛ حَيثُ فتَحَ لَهم بابَ التَّوبةِ
وفيه سَعةُ بابِ التَّوبةِ
وفيه أنَّ بابَ التَّوبةِ لا يُغلَقُ حَتَّى تَطلُعَ الشَّمسُ مِن مَغرِبِها