مسند عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، عن النبي صلى الله عليه وسلم 690
حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا يحيى بن سليم، عن عبد الله بن عثمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: إن الملأ من قريش اجتمعوا في الحجر، فتعاقدوا باللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، ونائلة وإساف: لو قد رأينا محمدا، لقد قمنا إليه قيام رجل واحد، فلم نفارقه حتى نقتله، فأقبلت ابنته فاطمة رضي الله عنها تبكي، حتى دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: هؤلاء الملأ من قريش، قد تعاقدوا عليك، لو قد رأوك، لقد قاموا إليك فقتلوك، فليس منهم رجل إلا قد عرف نصيبه من دمك. فقال: " يا بنية، أريني وضوءا " فتوضأ، ثم دخل عليهم المسجد، فلما رأوه، قالوا: ها هو ذا، وخفضوا أبصارهم، وسقطت أذقانهم في صدورهم، وعقروا في مجالسهم، فلم يرفعوا إليه بصرا، ولم يقم إليه منهم رجل، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قام على رءوسهم، فأخذ قبضة من التراب، فقال: " شاهت الوجوه " ثم حصبهم بها، فما أصاب رجلا منهم من ذلك الحصى حصاة إلا قتل يوم بدر كافرا (1)
بعد أن أكرم الله عز وجل نبيه بفتح مكة في العام الثامن من الهجرة، بلغهم أن مالك بن عوف النضري جمع القبائل الكافرة من هوازن وثقيف وتجمعوا في وادي حنين لمحاربة المسلمين، فندب النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وجيشه للتحرك نحو تجمعاتهم في حنين
وفي هذا الحديث يروي سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أنهم غزوا الكفار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وهو واد بين مكة والطائف وراء عرفات، فلما واجهوا العدو وكانوا في مقابلته، تقدم سلمة رضي الله عنه على جيش المسلمين وسبقهم إلى جهة العدو، واعتلى «ثنية» وهي الطريق في الجبل، فاستقبله رجل من العدو، فرماه سلمة رضي الله عنه بسهم، فتوارى هذا الرجل واختفى واستتر عن نظر سلمة رضي الله عنه، فلم يره بعد أن ضربه بالسهم، فلم يعلم ما صنع: هل مات أم أصابه فقط؟ ثم نظر سلمة رضي الله عنه إلى العدو ليعرف ماذا يصنعون، فإذا هم قد طلعوا وصعدوا على الجبل من طريق آخر غير الذي هو فيه، فالتقوا وصحابة النبي صلى الله عليه وسلم، فوقع بينهم القتال، فأدبر وانهزم بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقال سلمة عن نفسه: «وأرجع منهزما» أي: كان هو من جملة من رجع وأدبر عن العدو، وكان عليه من الثياب «بردتان»، أي: رداءان، جعل أحدهما إزارا يغطي به النصف الأسفل من الجسد، والآخر يغطي الجزء العلوي من الجسد، فانحل رباط الإزار، فجمع البردتين جميعا بيده على عاتقه، أو أمسك الإزار والرداء بيد واحدة؛ يشير إلى سرعة فراره، فلما كان على تلك الحال مر سلمة رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم راكبا على بغلته الشهباء، أي: البيضاء، ثابتا لا يفر مع الفارين، بل جعل يقبل على العدو، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم سلمة رضي الله عنه وهو يدبر مسرعا، قال: «لقد رأى ابن الأكوع فزعا»، أي: خوفا شديدا، فلما اقترب العدو من رسول الله صلى الله عليه وسلم، نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغلة، ثم قبض بكفه قبضة من تراب من الأرض، ثم استقبل بذلك التراب وجوه العدو، ودعا عليهم وقال: «شاهت الوجوه»، أي: تغيرت وقبحت بردها خائبة منهزمة، فأخبر سلمة رضي الله عنه أنه ما بقي منهم أحد، إلا ملأ عينيه تراب بتلك القبضة، فولوا ورجعوا مدبرين بعد أن استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش المسلمين وأقبلوا عليهم مرة أخرى، فهزمهم الله وفرقهم وشتتهم، ونصر رسوله، واستجاب دعاءه، وجمع له بين عز الجاه، وحسن الحال، وغنيمة المال، كما قال تعالى: {لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين * ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين} [التوبة: 25، 26]، وبعد نهاية المعركة قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم وأموالهم التي أخذها المسلمون في الحرب
وفي الحديث: شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم