ذكر أطيب الطيب

سنن النسائي

ذكر أطيب الطيب

 أخبرنا أبو بكر بن إسحق، قال: حدثنا عبد الرحمن بن غزوان، قال: أنبأنا شعبة، عن خليد بن جعفر، والمستمر، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم «امرأة حشت خاتمها بالمسك» فقال: «وهو أطيب الطيب»

فِتنةُ النِّساءُ أعظَمُ الفِتنِ مَخافةً على العبادِ، وقدْ زُيِّن للنَّاسِ حُبُّ الشَّهواتِ، وقُدِّمَت شَهوةُ النِّساءِ على جَميعِ الشَّهواتِ؛ لأنَّ المِحنةَ بهنَّ أعظَمُ المِحنَ على قَدْرِ الفِتنةِ بهنَّ، فيَنْبغي للمؤمنِ الاعتصامُ باللهِ، والرَّغبةُ إليه في النَّجاةِ مِن فِتنتِهنَّ، والسَّلامةِ مِن شَرِّهنَّ
وفي هذا الحديثِ يَحكي النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ امْرأةً قَصيرةً مِن بني إسرائيلَ كانت تَمشي معَ امرأتَينِ طوِيلتَينِ، والمرادُ: أنَّها إذا مَشتْ معَ صاحبِتَيْها الطَّويلتينِ بانَ قِصرُها، فلَبِستْ في قدَمَيها رِجلَينِ مُزوَّرتينِ من خَشبٍ، أو اتَّخذتْ كعبَينِ طَويلينِ عاليَينِ لنَعلَيْها، فكأنَّهما لطُولِهما رِجلانِ؛ وذلِك حتَّى تكونَ طويلةً مِثلَهما؛ فلا يَتفاضلانِ ولا يَتميَّزانِ ولا يَتباهيانِ عَلَيها، واتَّخَذت خاتمًا مِن ذَهبٍ، وجَعَلَت هذا الخاتمَ مُغلَقًا مُطْبَقًا، أي: جعَلَتْ له غَلَقًا، والمطْبَقُ هو الَّذي دَاخلُه فارغٌ، ثمَّ وَضَعَتْ داخلَ الخاتمِ مِسْكًا وأحكَمتْهُ وأغلَقتْ عليهِ، والمسكُ أفضلُ الطِّيبِ وأطيبُه وأحسَنُه، وحَقيقةُ المِسكِ دمٌ يَجتمِعُ في سُرَّةِ الغَزالِ إلى وَقتٍ مَعلومٍ مِن السَّنةِ، وعندَ حُصولِه تَمرَض الظِّباءُ، فيَتساقطُ منها فيُؤخَذ ويُستعمَلُ طِيبًا
فمَرَّت تلكَ المرأةُ بيْن المرأتينِ الطَّويلتينِ وهي لابسةٌ للرِّجْلِ الخشبِ والخاتمِ، فلم يَعرِفاها؛ لأنَّها غيَّرتْ هيئتَها وطال جِسمُها بالرِّجلَينِ المزوَّرتَينِ، «فقالتْ بِيدِها هَكذا»، أي: وعندَ مُرورِها عليهنَّ أشارتْ بيَدِها الَّتي فيها الخاتمُ المحشُوُّ مِسكًا وحرَّكتْها بعْدَ أنْ فَتَحَتْه، ففاحَ ريحُ المسكِ، وكأنَّها تَتفاضَلُ عليهِما، قال الرَّاوي -وهو أبو أُسامةَ حمَّادُ بنُ أُسامةَ-: «ونَفَضَ شُعبةُ يدَه»، أي: حَاكى شُعبةُ حرَكةَ اليدِ كما فعَلَت المرأةُ. وفي روايةٍ لأحمدَ: «فكانتْ إذا مرَّتْ بالمجلسِ حَرَّكتْه، فنَفَخَ رِيحُه»، أي: إذا مرت بمجالِسِ النَّاسِ والرِّجالِ تَعمَّدتْ تَحريكَ الخاتمِ ليَفوحَ رِيحُه، فيَشَمَّه الناسُ، فتَنجذِبَ الأنظارُ إليها، كأنَّها تَتفاخَرُ على قَرِينتَيها اللَّتين معها
ولهذا الحَديثِ رِوايةٌ أخرى أطولُ مِن هذِه، أخرَجَها أحمدُ في مُسنَدِه، وفي أوَّلِها التَّحذيرُ مِن فِتنة الدُّنيا وفِتنة النِّساءِ خاصَّةً، وفيها قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «إنَّ الدُّنيا خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فاتَّقوها واتَّقوا النِّساءَ»، أي: فاحْذُروا الدُّنيا وخافوا الوقوعَ في فِتنتِها، ومِن أشدِّ فِتنِها النِّساءُ، فاحْذَروا فِتنةَ النِّساءِ خاصَّةً، واحذَروا أنْ تَميلوا إلى النِّساءِ بالحَرامِ، أو تَنْساقُوا وراءَ النِّساءِ وفِتنَتِهنَّ، ثمَّ ذَكَر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قِصَّةَ النِّسوةِ الثَّلاثِ، وكيف تَفنَّنتْ إحداهنَّ في إظهارِ مَفاتنِها وإغواءِ النَّاسِ
وفي الحديثِ: الحَثُّ على مُلازمَةِ التَّقوَى، وعَدمِ الانْشِغالِ بظَواهرِ الدُّنيا وزِينَتِها
وفيه: بَيانُ فَضلِ المِسكِ على سائرِ الطِّيبِ