ضرب الدف يوم العيد
سنن النسائي
أخبرنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا محمد بن جعفر، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها جاريتان تضربان بدفين، فانتهرهما أبو بكر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «دعهن فإن لكل قوم عيدا»
كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَيرَ النَّاسِ لِأهلِ بَيتِه في حُسْنِ الخُلُقِ معهُنَّ، والرِّفقِ بهِنَّ
وفي هذا الحَديثِ تُخبِرُ أُمُّ المُؤمِنينَ عائِشةُ رَضيَ اللهُ عنها أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ دَخَل عليها وعِندَها جاريَتانِ صَغيرَتانِ دُونَ البُلوغِ، مِن جَواري الأنصارِ تُغَنِّيانِ بما قالَه العَرَبُ في يَومِ بُعَاثَ، وهو حِصنٌ وَقَعَ عِندَه مَقتَلةٌ عَظِيمةٌ بيْن الأوْسِ والخَزرَجِ في الجاهِليَّةِ، وانتَصَرَ الأوْسُ على الخَزرَجِ، ثمَّ ألَّفَ اللهُ بيْنَهما ببَرَكةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فاضْطَجَعَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وحَوَّلَ وَجْهَه إلى الجِهةِ الأُخرى؛ لِلإعراضِ عن ذلك؛ لِأنَّ مَقامَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَقتَضي أنْ يَرتَفِعَ عنِ الإصغاءِ إليه، لكِنَّ عَدَمَ إنكارِه يَدُلُّ على تَسويغِ مِثلِه على الوَجْهِ الذي أقَرَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ إذْ إنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لا يُقِرُّ باطلًا. فلَمَّا دَخَلَ أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه انتَهَرَ عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها، أي: زَجَرَها؛ لِمَا تَقرَّرَ عِندَه مِن مَنعِ الغِناءِ واللَّهْوِ، وقال لها: مِزْمارةُ الشَّيطانِ عِندَ رَسولِ اللهِ! يَعني الغِناءَ أوِ الدُّفَّ؛ لِأنَّ المِزمارةَ والمِزمارَ مُشتَقَّتانِ مِنَ الزَّميرِ، وهو الصَّوتُ الذي له صَفِيرٌ، ويُطلَقُ على الصَّوتِ الحَسَنِ، وعلى الغِناءِ، وأضافَها رَضيَ اللهُ عنه إلى الشَّيطانِ؛ لِأنَّها تُلهي القَلبَ عن ذِكرِ اللهِ تَعالى، ولم يَعلَمِ الصِّدِّيقُ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أقَرَّهُنَّ على هذا؛ لِكَونِه دَخَلَ فوَجَدَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُضطَجِعًا، فظَنَّه الصِّدِّيقُ نائِمًا، فقامَ بالإنكارِ عليهِنَّ، فلَمَّا فَعَلَ أقبَلَ عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وقال: «دَعْهما»؛ لِأنَّ اليَومَ يَومُ عِيدٍ، ويَومُ العِيدِ يَومُ سُرورٍ شَرعيٍّ؛ فلا يُنكَرُ مِثلُه، ولِكَونِ ذلِك مِنَ اللَّهوِ المُباحِ الذي لا يُهيِّجُ النُّفُوسَ إلى أُمورٍ لا تَليقُ
فلَمَّا غَفَلَ أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه أو النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن هذا الأمرِ، غَمَزتْ أُمُّ المُؤمِنينَ عائِشةُ رَضيَ اللهُ عنها الجاريتَيْنِ، تُشيرُ إليهما، فخَرَجَتا
قالت: وكان يَومُ العِيدِ يَلعَبُ السُّودانُ -أيِ: الحَبَشُ، وهُم جِنسٌ مِنَ السُّودانِ، جَمعُ أسْوَدَ- بالدَّرَقِ، وهي نَوعٌ مِنَ التُّروسِ تُتَّخَذُ مِنَ الجُلودِ، ليس فيها خَشَبٌ، وبالحِرابِ، وهي جَمعُ حَرْبةٍ، وهي سِلاحٌ يُتَّخَذُ في الحَربِ، قَدْرُه دُونَ الرُّمْحِ الكامِلِ، وليس بعَرِيضِ النَّصْلِ، وقد طَلَبتْ أُمُّ المُؤمِنينَ عائِشةُ رَضيَ اللهُ عنها مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ تَنظُرَ إلى لَعِبِهم، أو النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هو الذي عَرَضَ عليها ذلك فأقَامَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وَراءَه، ووَضَعتْ رأْسَها على كَتِفِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بحيثُ التَصَقَ خَدُّها رَضيَ اللهُ عنها بخَدِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقال: «دُونَكم بَني أرْفِدةَ»، يَعني: تابِعوا اللَّعِبَ يا بَني أرْفِدةَ، وهو لَقَبٌ لِلحَبَشةِ، أوِ اسْمُ أبيهمُ الأكبَرِ، حتَّى إذا مَلَّتْ عائِشةُ رَضيَ اللهُ عنها قال: «حَسْبُكِ؟» يَعني: هل يَكفِيكِ ذلك المِقدارُ يا عائِشةُ؟ فقالتْ: نَعَمْ. فأمَرَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالذَّهابِ وتَرْكِ المُشاهَدةِ
وفي الحَديثِ: الانبِساطُ والانشِراحُ والتَّوسِعةُ على الأهلِ والعيالِ في أيَّامِ الأعيادِ، بما يَحصُلُ به التَّرويحُ عنِ النَّفْسِ، وأنَّه يُغتَفَرُ في العِيدِ ما لا يُغتَفَرُ في غَيرِه
وفيه: تَأديبُ الأبِ بحَضرةِ الزَّوجِ، وإنْ تَرَكَه الزَّوجُ؛ إذِ التَّأديبُ وَظيفةُ الآباءِ، والعَطفُ مَشروعٌ مِنَ الأزواجِ لِلنِّساءِ
وفيه: مَشروعيَّةُ النَّظَرِ إلى اللَّهوِ المُباحِ