محاضرة 10

بطاقات دعوية

بسم الله الرحمن الرحيم

 السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاتهْ، إِنِّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوْذُ بِاللهِ مِنْ شُرُوْر أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ.

هٰذِه المُحاضرةُ هِيَ العاشرة من عِلْم العقيدة، وما زال الحَدِيْثُ مُتصلًا والموقظةُ التاسعة.

×وَقَدْ بيّنتُ فِي المحاضرة السابقة عدةً أمورٍ منها:

بيّنتُ أولًا: كذبَ مَنْ قَالَ أن غرضَ ابْن تَيْمِيَّة من التقسيم هُوَ تكفيرُ المخالف.

ثانيًا: ذكرتُ مثالًا يفضحُ هَؤُلَاءِ، بيّنتُ من خلالهِ أن ابْن تَيْمِيَّة يعذرُ بالجهل، وأن هَؤُلَاءِ لا يعذرونَ بالجهل، وأن ابْن تَيْمِيَّة يعذرُ بالجهل فِي هذَا الْمِثَال بشيءٍ يتعلقُ بتوحيد الربوبية، وَهَؤُلَاءِ لا يعذرونَ بشيءٍ فِي توحيد الربوبية.

عزوجل وَعَلَيْهِ؛ فَإِنَّ ابْن تَيْمِيَّة V لا يُكفرُ مَنْ يُخالف توحيد الربوبية بجهلٍ، أما هَؤُلَاءِ لا يعذرونهُ ويُكفروه.

عزوجل وَعَلَيْهِ؛ فهم الَّذِينَ يُكفرونَ النَّاس بلا استكشافٍ ولا بينةٍ ولا إقامةٍ للعذر، وَهذِه عادتُهم يرمون غيرهم بدائهم.

\لِذَٰلِكَ ذكرتُ كلامًا للذهبي V، قَالَ ما نصهُ ومذهبهُ، أي مذهبُ ابْن تَيْمِيَّة، توسعةُ العذرِ للخلق، ولا يُكفرُ أحدًا إِلَّا بعدَ قيام الحُجة عَلَيْهِ.

\كَذَلِكَ ذكرتُ قصةَ الكذوب ابْن بطوطة، وَكَذَلِكَ بيّنتُ أَنَّهُ لا حُكمَ لمجرد العلم، إِنَّمَا الحكمُ عَلَى النَّاس بعدَ البينة وإقامة الحُجة.

Éواللهُ تبارك و تعالى  العليمُ بكُلِّ شَيْءٍ ما حكمَ عَلَى إبليس إِلَّا بعدما استنطقهُ وبانت الحُجة وقامت عَلَيْهِ.

Éوَكَذَلِكَ ما أخرجَ آدمَ وحواء من الجَنَّة إِلَّا بعدما استنطقهما فأقام الحُجةَ عليهما ثُمَّ قَالَ: اهبطوا.

وبدأنا فِي الموقظةَ التاسعة، عنوانُها: "معنى قول أهل السُّنَّة أنهم مُتفقونَ عَلَى أَنَّهُ لا يُكفرُ أحدٌ بذنبٍ حَتَّى يستحله".

بيّنتُ مُرادهم وأنهم يقصدونَ بالذنب هنا الكبيرةَ والصغيرة، فَإِنَّ شرطَ التكفيرِ بهما هُوَ الاستحلالُ بعد إقامة الحُجة، أي يقولون: أن السرقةَ حلالٌ، أن الزنا حلالٌ، أن الكذبَ حلالٌ، وغير ذَلِكَ من الأمور.

ولكن كالعادة أهلُ البدع يقفزونَ عَلَى ثوابت هذَا الدين، فالمُرجئةُ يزعمونَ أن هٰذِه المقولة يدخلُ فيها أيضًا الكُفر، فلا يُكفرونَ أحدًا إِلَّا بالاستحلال أَوْ التكذيب، وإبليس يُكذبهم فِي هذَا؛ فَإِنَّ إبليسَ ما كان له أن يُكذبَ أن الَّذِي قِيلَ له هُوَ من اللهِ عزوجل ، وَهٰذَا ضلالٌ مُبين؛ لِذَٰلِكَ شرُ المرجئة عَلَى هٰذِه الأُمَّة أشدُ من شر الخوارجِ والأزارقة وأمثالِهم، وَقَدْ بيّنتُ مذهبهم بالتفصيل، فِي عدةِ كُتب منها: الإعلامُ بمسمى الإيمان، ومنها: البُرهانُ فِي معاني الإيمان، ومنها: حصن المؤمن، وغيرُ ذَلِكَ.

لِذَٰلِكَ لَا بُدَّ من التنبيه عَلَى هٰذِه القضية الكبيرة، أعني أن أهلَ السُّنَّة إذا قالوا: "متفقونَ عَلَى أَنَّهُ لا يُكفرُ أحدٍ بذنب"، أنهم يقصدونَ الكبيرة والصغيرة، أما بالنسبةِ للكفر، فَإِنَّ الكفرَ مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ يحصلُ بغير الاستحلال، ويحصلُ بغيرِ التكذيب، وَهذِه مَسْأَلَةٌ كبيرة قَدْ بيّناها.

فَإِنَّ علمتَ ما سبق؛ إذًا تبيّن أن الذنوبَ عَلَى ثلاثِ دركاتٍ:

- صغيرةٌ.

- وكبيرةٌ.

- وكُفر.

فِي الحقيقة هذَا التقسيم يحتاجُ إِلَى بسطٍ قَدْ بيّنتهُ فِي مكانٍ آخر، ولكن أذكرُ عَلَى عُجالة هنا ما يهمُنا فِي هذَا المقام، أن أبا إسحاق الإسفراييني V، زعم أن الذنوبَ دركتان لا ثلاث، يَعْنِي يَقُولُ: لا يوجد إِلَّا الكُفر أَوْ الكبيرة، بمعنى: أَنَّهُ أنكرَ الصَّغَائِر، وَهٰذَا واللهِ من العجائب، كيفَ وَقَدْ نطقَ الكتابُ بذلكَ ونطقت السُّنَّة بذلكَ، بَلْ إجماعُ أمة مُحَمَّد القديم عَلَى ذَلِكَ، فلا أدري من أين جاء بهٰذَا الْكَلَام أَوْ عَلَى أي مُستند استندَ.

ولكن مِمَّا لَا شَكَّ فيه بالبحث الدقيق تبيّنتُ سِرَ هٰذِه الْمَسْأَلَة، ولكن لا داعي لذكرهِ الآن، ولكن أذكرُ بعض الْأَدِلَّة من كتابِ اللهِ عزوجل  تُبيّنُ صحة ما نَقُول، فَإِنَّ الله عزوجل  كما فِي آية النساء: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 48].

أولًا: هٰذِه الآية تُبين أن شَيْئًا لا يغفرهُ اللهُ عزوجل ، وَقَدْ بيّنهُ الله وَهُوَ الشِّرْك، وكما سبق، لا يدخل فِي هذَا أي فِي هذَا الشِّرْك الَّذِي لا يغفرهُ، لا يدخل فِيهِ الجاهل أَوْ المتأول، وَذَلِكَ كما بيّناهُ فِي حديث: «لَمْ يعمل خيرًا قط»، «أَوْ كالعبد الَّذِي فقد ضالتهُ فِي فلاة، فلما رآها قَالَ: اللهمَ أنتَ عبدي وأنا ربُكَ»، وَهٰذَا مِمَّا لَا شَكَّ فيه كفرٌ صريح، ولكنه من شدة الفرح حصلَ له ذهول، هذَا الذهول أذهبَ عنه حقيقة الْكَلَام.

الشيء الْثَّانِي الَّذِي فِي هٰذِه الآية: شيءٌ يغفرهُ اللهُ تبارك و تعالى ، هذَا الشيء نوعان:

- كبيرة.

- وصغيرة.

وَالَّذِي يدلُكَ عَلَى ذَلِكَ من كِتَاب الله، كما فِي آية النجم: ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ﴾ [النجم: 32]، اللهُ عزوجل  يتكلمُ عن المُحسنين، فيقول: أنهم يجتنبونَ كبائر الإثم والفواحش إِلَّا اللمم، إذًا اللمم لَيْسَ من الْكَبَائِر، واللممُ هُوَ الصغيرة.

إذًا الآية فِي حقيقة الأمر بيّنت أن الشيءَ الَّذِي يغفرهُ اللهُ عزوجل  قَدْ يكونُ صغيرةً، وَقَدْ يكونُ كبيرة. وبهذا بطلَ كلام أبي إسحاق الإسفراييني V حيثُ قَالَ: الذنبُ ذنبان: كُفرٌ، وكبيرة.

قُلتُ: وَالَّذِي يؤكدُ بُطلان كلامهِ، اللهُ عزوجل  فِي آية النساء الحادية والثلاثين يقولُ: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمً﴾ [النساء: 31]. انظر: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾، يَعْنِي السَّيِّئَات هٰذِه لا يُمكن أن تكونَ هِيَ الكُفر، ولا يُمكن أن تكونَ هِيَ الْكَبَائِر؛ لِأَنَّ الكبيرة شرطٌ فِيها، فكيف تكونُ هِيَ هِيَ؟!

لِذَٰلِكَ (سَيِّئاتِكُمْ) هنا: (إن تجتنبوا كبائرَ ما تُنهونَ عنه، نُكفر عنكم صغائركم ونُدخلكم مُدخلًا كريمًا).

بَلْ المولى عزوجل  فِي أكثر من آية من كِتَاب الله، جاءت منطوقًا ومفهومًا، كما فِي آية الكهف، قَالَ تَعَالَى: ﴿مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا﴾ [الكهف: 49]، أي: ما من عملٍ كبير أَوْ صغير إِلَّا اللهُ عزوجل  قَدْ كتبهُ، فكيف يُقالُ لا توجد صغيرة، وأن كُلَّ ذنبٍ يُفعل ما هُوَ إِلَّا كبيرة.

وَكَذَلِكَ فِي سورة القمر قَالَ تَعَالَى: ﴿وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ﴾ [القمر: 53]، نعم، كُلُّ شيء إِمَّا صغير وَإِمَّا كبير، ولكن فِي الحقيقة فيه آية فِي غاية الخطورة فِي كِتَاب الله، فِي سورة فاطر الآيةِ الثانية والثلاثون يَقُولُ المولى تبارك و تعالى : ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ﴾ [فاطر: 32]، فَهٰذِه الآية صُنفت عَلَى أساس الكبيرة، وَعَلَى أساس الصغيرة، فَإِنَّ الله يَقُولُ فِي صدرها: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾، إذًا المذكورين فِي هٰذِه الآية كُلُّهم قَدْ اصطفاهم الله، الظالمُ لنفسهِ، والمقتصد، والسابق.

Ûلِذَٰلِكَ الآية السادسة والثلاثين قَالَ: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [فاطر: 36] هم خارج هذَا الاصطفاء، فيا تُرى مَنْ هُوَ الظالمُ لنفسهِ هنا؟ مِمَّا لَا شَكَّ فيه الظالمُ لنفسهِ هنا هُوَ صاحبُ الكبيرة قولًا واحدًا.

Éولو سألتَ عن السابق بالخيرات هُوَ مَنْ فعلَ كُلَّ مأمورٍ واجب، وتركَ كُلَّ محظورٍ محرم، لكن ارتكبَ القليل من الصَّغَائِر.

Éأما المقتصد فهو فعلَ كُلَّ مأمورٍ واجب، وتركَ كُلَّ محظورٍ محرم، فعلَ كثيرًا من الصَّغَائِر.

عزوجل أَوْ من الممكن أن أصيغها بطريقةٍ أفضل من ذَلِكَ:

×أن السابق بالخيرات هُوَ مَنْ فعلَ المأمور الواجب، وتركَ المحظور المحرم، وفعلَ أكثر المستحبات، وتركَ أكثر المكروهات.

أما المقتصد: فعلَ المأمور الواجب، وتركَ المحظور المحرم، ففعل أكثر المكروهات، وفعلَ أقل المستحبات.

إذًا الظالمُ لنفسه لَمْ يدخل لا فِي المقتصد ولا فِي السابق، إذًا هُوَ مَنْ تركَ بعض المأمورات، وفعلَ بعض المحظورات.

وَعَلَيْهِ: فمن ترك مأمورًا واجبًا أَوْ فعلَ محظورًا محرمًا، إذًا قَدْ ارتكبَ كبيرةً من الْكَبَائِر – عِيَاذًا بِاللَّهِ تَعَالَىٰ-.

إذًا هٰذِه الآية كالصريحة فِي أن هذَا التقسيم عَلَى الكبيرة والصغيرة.

هٰذِه واضحة جدًا فِي سُنّة نَبِيِّنَا صلى الله عليه و سلم ، ولا تحتاجُ إِلَى كثيرِ فهم، وأخصُ بالذكرِ ما رواهُ مُسلمٌ V عن أبي هريرةَ I قَالَ: قَالَ صلى الله عليه و سلم : «الصلواتُ الخمس، والجُمُعةُ إِلَى الجُمُعة، ورمضانُ إِلَى رمضان مُكفراتٌ ما بينهنَ إذا اجتنبت الْكَبَائِر».

إذًا ما الَّذِي كُفرَ إن كان هُوَ قَدْ اجتنبَ الْكَبَائِر؟ إِمَّا هُوَ الكُفر؟ إِمَّا هُوَ الصغيرة؟ وقطعًا الكُفر يستحيل.

إذًا ما بقيت إِلَّا أنها مُكفرات للصغائر بين هٰذِه المباني العظيمة، أعني الصلوات، وأعني رمضان.

وَعَلَيْهِ: فَإِنَّ علمتَ ما سبق سيكونُ الحديث محصور بين الصغيرة وبين الكبيرة. وكان الأجدر أن أبدأ بالكبيرة ثُمَّ الصغيرة، ولكن سأبدأُ بالصغيرة لأشياءٍ ستظهرُ فِي ثنايا الْكَلَام، لِذَٰلِكَ سأذكرُ لك نُبذةً عن الصغيرة، وأُخرى عن الكبيرة، وأظنُ واللهُ أَعْلَمُ، أن فِي كتابنا: ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ﴾ [هود: 3]، أظنُ أن هٰذِه الآية قَدْ شُرحت فِي بعض وثلاثينَ محاضرة، وَهِيَ عَلَى القناة، فَإِنَّ شئتَ فعُد لها.

خُلاصة الصَّغَائِر والكبائر، وأنا أتكلمُ فِي حقِ الْأَنْبِيَاء والمُرسلين، وفي حقِ غيرهم من عموم النَّاس، فاحفظ هٰذِه الكلمات فإنها فِي غاية الأهمية.

الأنبياءُ والمرسلون معصومونَ من الوقوعِ فِي الكُفرِ والكبائرِ ابتداءً، أي: لا يقعُ الكفرُ منهم البتة، ولا تقع منهم الكبيرة البتة، وَهٰذَا ابتداءً.

ثانيًا: أن الأنبياءَ والمُرسلين ليسوا معصومينَ من الوقوعِ فِي الصَّغَائِر، انتبه. ولكن هم معصومونَ من عدم التوبةِ من الصَّغَائِر، يَعْنِي يستحيل أنهم لا يتوبون، مع أنها ستُغفرُ لتجنب الْكَبَائِر كما سبق، إِلَّا أنهم يتوبونَ مِنها، لذلكَ كُفرٌ وكبيرة لا يقعُ ابتداءً، الصغيرة غيرُ معصومينَ منها، وتقعُ من الْأَنْبِيَاء، وسنثبتُ أنها وقعت من نَبِيِّنَا صلى الله عليه و سلم ، فَإِنَّ كان ذَلِكَ فِي خاتم الْأَنْبِيَاء وَهُوَ أعلى رُتبة من أي أحدٍ من الْأَنْبِيَاء والمرسلين، فَمَنْ دونهُ من بابِ أولى.

ولكن مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أنهم معصومونَ من عدم التوبةِ من الصَّغَائِر.

إذا انتهينا من النُخبة، وهُم المُرسلون، قُلنا: مَنْ دونهم ليسوا معصومينَ فِي الكُفرِ ابتداءً، ليسوا معصومينَ من الوقوعِ فِي الكبائرِ ابتداءً، فمن بابِ أولى ليسوا معصومينَ من الوقوعِ فِي الصغائرِ ابتداءً، الأعجب من هٰذِه: ليسوا معصومينَ من عدم التوبة، فقد يموتونَ ولا يتوبون، وَقَدْ يموتونَ ولا يتوبونَ لا مِنْ كُفرٍ أَوْ مِنْ كبيرة أَوْ من صغيرة.

إذًا الفارقُ بين الأنبياءِ والمُرسلين فِي كِفة، وَمَنْ دونهم فِي كِفةٍ أُخرى، مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ البون واسع واسع كما ترونَ.

لِذَٰلِكَ لَا بُدَّ من الوقوف هنا عَلَى عدةِ مَسَائِل، أُمهد لها: بأن الصَّغَائِر تقع من المُسلم، وتقعُ من المؤمن، وتقعُ من المُحسنِ من غَيْرِ فرق، نعم، وقوعُها من المُحسن أقل من وقوع المؤمن، ووقوعها من المؤمن أقل من الْمُسْلِم، هٰذِه لا يُمكن أن تُنكر، ولكن الَّذِي لا يُنكرُ أيضًا أنها تقعُ من الجميع من غَيْر فرق.

وَمِمَّا لا شك فيه دخل فيها الأنبياءُ والمُرسلين قولًا واحدًا، فإنه لا درجةَ بعد الإحسان، نعم الإحسانُ درجات، والإحسان مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ يدخل فِيهِ الْأَنْبِيَاء والمرسلون.

أنظر إِلَى قولهِ تَعَالَى فِي آيتي النجم: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾ [النجم: 31]، (الَّذِينَ)، إذًا الْكَلَام الآن عن (الَّذِينَ أحسنوا بالحسنى)، (الَّذِينَ) أي وصفهم: ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ﴾ [النجم: 32]، إذًا كُلُّ المُحسنين يجتنبون الْكَبَائِر، ولكن يقعونَ فِي الصَّغَائِر.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ﴾، سيغفرُ ماذا؟ الكُفر؟! لا نصيبَ لهم فِيهِ –أعني المُحسن-.

الشيء الْثَّانِي: الكبيرة قَدْ اجتنبوها، فلا نصيبَ لها فيهم.

إذًا ما بقيَّ؟ ﴿إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ﴾ للصغائر.

مَنْ هذَا الَّذِي يُخرجُ النَّبِيّ صلى الله عليه و سلم ، وَمَنْ دونهُ من الْأَنْبِيَاء من هٰذِه الآية بغيرِ نصٍ شرعي؟ ما مِنْ نصوص شرعية كتابًا وسُنةً وإجماعًا عَلَى ذَلِكَ، وأولُ مَنْ ابتدعَ هٰذِه البدعة الخبيثة هم المعتزلة، زعموا بأنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و سلم  لا تقع مِنْهُ الصَّغَائِر، لِذَٰلِكَ فِي حق الأُمَّة الأمرُ خطير.

عن عبد الله بن مسعود I، الحديث مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ: «أن رجلًا أصابَ من امرأةٍ قُبلةً»، أي من امرأةٍ أجنبية، «فأتى النَّبِيَّ صلى الله عليه و سلم  فأخبرهُ، فأنزلَ اللهُ عزوجل  عَلَيْهِ: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ[هود: 114]»، أي هٰذِه المباني العظيمة –أعني الصلوات-، سبب عظيم لذهاب السَّيِّئَات –أعني هٰذِه السَّيِّئَة-.

فَقَالَ الرَّجُل: يا رَسُول الله، أليَّ هٰذِه؟ كأنه يَقُولُ: أليّ هٰذِه خاصة؟

فَقَالَ صلى الله عليه و سلم : «لا، لجميعُ أُمتي كُلِهم». فَهٰذِه مِمَّا لَا شَكَّ فيه واضحةُ المعالم فِي أن اللهَ عزوجل  يغفرُ الصَّغَائِر لكُلِّ مَنْ تجنبَ الْكَبَائِر، وأقامَ المباني – أعني الصلوات الخمس، والجُمُعة، ورمضان-. وهُنا بحثٌ طويل مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ، لَيْسَ هذَا موضعهُ.

أُأكدُ هذَا الْمَعْنَى بما رواهُ الشيخان أيضًا –أعني البخاري ومسلمًا رحمهم الله- عن أبي هريرةَ I قَالَ: قَالَ صلى الله عليه و سلم : «إن اللهَ كتبَ عَلَى ابنِ آدم حظهُ من الزنا أدركَ ذَلِكَ لا محالة، فزنا العين النظرُ، وزنا اللسانِ النطقُ، والنفسُ تمنى وتشتهي، والفرجُ يُصدقُ ذَلِكَ كُلَّهُ ويُكذبه».

فهنا نَبِيِّنَا صلى الله عليه و سلم  بيّنَ أَنَّهُ كتبَ عَلَى ابنِ آدم، عَلَى كُلِّهم حظهُ من الزنا، فسمى أن مَنْ نظرَ إِلَى ما يُحرم عَلَيْهِ؛ فَهٰذَا زنا، وَمَنْ تكلمَ بشيءٍ لا يحلُ له أن يتكلمَ فِيهِ فسماهُ زنا، وغير ذَلِكَ من الأمور.

قَدْ يقولُ القائل: يُقامُ عَلَيْهِ الحد؟ حدُ ماذا يا ابني؟! الحدُ لا يُقامُ إِلَّا عَلَى الزنا بالمعنى المعروف، رجلٌ يزني فِي امرأة بشرط بابهِ، هذَا الَّذِي يُقامُ عَلَيْهِ الحد.

فَإِنَّ قُلتَ: لما سمى سوابق هٰذِه بالزنا؟ لِأَنَّ الزنا هُوَ دخول شيء فِي شيء، وَكَذَلِكَ عِيَاذًا بِاللَّهِ تَعَالَىٰ: مَنْ نظرَ إِلَى ما حرمهُ اللهُ عزوجل ؛ فَهٰذَا مِمَّا لَا شَكَّ فيه دخول شيء فِي شيء أيضًا، فَهٰذَا هُوَ الجامع لهٰذِه الْكَلِمَة، حَتَّى لا يضحك أحدٌ، وَهٰذَا سمعتُ بأُذني من دجالين يتكلمون فِي دينِ رب العالمين، ويردون هذَا الحديثَ المُتفق عَلَيْهِ، بزعم: كيف نُقيمُ حدًا عَلَى مَنْ نظرَ إِلَى أجنبية مَثَلًا دون حاجة، وغير ذَلِكَ من الأمور، نسأل الله السلامَ والعافية.

هٰذِه الصَّغَائِر مِمَّا لَا شَكَّ فيه، تُمحى بأشياءٍ كثيرة جدًا، رأسُها التوبة، إن كانت التوبةُ تمحوا الكُفر، إن كانت التوبةُ تمحوا الكبيرة، فكيف لا تمحوا الصغيرة؟ هذَا من بابِ أولى.

كَذَلِكَ الصَّغَائِر تُمحى باجتنابِ الْكَبَائِر وفعل المباني، أعني: «بُني الْإِسْلَام عَلَى خمس، الصلوات ... » إِلَى آخرهِ.

لِذَٰلِكَ يَقُولُ المولى عزوجل : ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمً﴾ [النساء: 31]، وقال صلى الله عليه و سلم : «الصلواتُ الخمس، والجُمُعةُ إِلَى الجُمُعة، ورمضانُ إِلَى رمضان، مُكفراتٌ ما بينهنَّ إذا اجتنبت الْكَبَائِر».

بَلْ واللهِ قَدْ يكونُ فعل الحسنات المُجردة، فعلُ الحسنات المُجردة سببٌ لإزالة الصَّغَائِر، بَلْ سببٌ لإزالة الكبيرة أصلًا، يَعْنِي حسنةٌ قَدْ تُزيلُ الكبيرة وإن لَمْ تتُب منها، وطبعًا حديث البُخاري واضح، ونصهُ: «أن مومسةً من بني إسرائيل»، يَعْنِي امرأة زانية مُتمرسة فِي الزنا، «رأت كلبًا يلهثُ من العطش، فخلت نوقها» أي الخُف، «وحجابها، وربطتهُ فِي الخُف وأدلت بِهِ فِي البئر، فجاءت بماءٍ فسقت الكلب، فغفرَ اللهُ لها»، وَهذِه ستأتي بالتفصيل، ولكن أردتُ فَقَطْ أن أُبيّنَ أن فعلَ الحسنات مِمَّا لَا شَكَّ فيه يُذهبُ الصَّغَائِر قولًا واحدا، وإن كانت الحسنةُ قوية قَدْ تُذهبُ الكبيرة.

لِذَٰلِكَ مَثَلًا: إماطةُ الأذى عن الطريق، «أن رجُلًا أزالَ شجرةً كانت تمنعُ النَّاس من السير، فغفرَ اللهُ له»، إِلَى غَيْر ذَلِكَ من الأمور.

وَقَدْ بينتُ هٰذِه الْمَسْأَلَة، ولكن يَعْنِي لا أتذكر المكان، مبحثٍ خاص اسمهُ: أسبابُ زوال الذنوب، وبيّنتُ أنها عشرةٌ عَلَى تفصيلٍ فِي مكانهِ. ولكن أُريد هنا أن أُبيّنَ ما السَّبَب فِي الوقوع فِي المحرمات بوجهٍ عام؟ فالمحرمات كُفر فوقهُ كبيرة فوقه صغيرة، والصغيرة من المحرمات، مِمَّا لا شَكَّ فيه يوجد ثلاثةُ أشياء، ألا وَهِيَ: سوءُ الظَّنّ بالله عزوجل ، عدمُ قُدرة عَلَى الصبر عَلَى دفع الشهوة، غلبة الهوى فِي عقل الفاعل.

هٰذِه الثلاثة مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ مقدارُها يختلفُ من دركةٍ إِلَى أُخرى، فسوء الظَّنّ، وعدم قدرة الصبر عَلَى دفع الشهوة، وغلبة الهوى، - عِيَاذًا بِاللَّهِ تَعَالَىٰ- فِي الكفرِ أَوْ إذا ساقت إِلَى الكفر، فَهٰذِه قَدْ وصلت من الدركات إِلَى شَيْءٍ عظيم – عِيَاذًا بِاللَّهِ تَعَالَىٰ-، فَإِنَّ خفت وقع فِي الكبيرة، فَإِنَّ خفت جدًا وقعت فِي الصغيرة.

ولكن مِمَّا لَا شَكَّ فيه هٰذِه الثُلاثية، أعني:

- سوء الظَّنّ.

- وعدم الصبر.

- وغلبة الهوى.

تجتمعُ فِي الكُفر والكبيرة وَلَا بُدَّ. ولا يلزمُ أن تجتمعَ فِي الصغيرة، بمعنى: قَدْ يُفارقُ سوءُ الظنِ بالله الصبر وغلبة الهوى، وَهٰذَا مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ فِي حق الْأَنْبِيَاءِ مُتحقق، فلا يُمكن أن يسوء الظنَ باللهِ عزوجل ، ولكن فِي حق عموم الْمُسْلِمِينَ مِمَّا لَا شَكَّ فيه سوء الظَّنّ بالله وعدم الصبر وغلبة الهوى بالقدر الَّذِي توقعهُ فِي الصغيرة، وَهٰذَا يُبيّنُ لنا جليًا أن العُذرَ بالجهل من صُلبِ دينِ رب العالمين، فسوء الظَّنّ بالله مهما إن كان قدرهُ من القلة، مِمَّا لَا شَكَّ فيه أمرٌ عظيم عند اللهِ عزوجل .

أقفُ هُنا وقفةً كبيرة مع موقف النَّاس من الصَّغَائِر، قطعًا أنا أدري: مَنْ اجتنبَ الْكَبَائِر ووقعَ فِي الصَّغَائِر، فالصغائر مغفورة أصلًا باجتناب الْكَبَائِر وفعل المباني، وبعض الشروط الَّتِي بيّنتُها فِيمَا سبق.

ولكن أنا أتكلمُ وَفَقَطْ عن موقف النَّاس من الصَّغَائِر، لا تفصيل البحث فِي الصَّغَائِر، فموقفُ الْأَنْبِيَاء قَدْ بيّنتهُ، فالأنبياءُ والمُرسلون إن كانوا لا يقعونَ فِي الكُفر ابتداءً كما سبق، ولا فِي الْكَبَائِر كما سبق، هل يقعونَ فِي الصَّغَائِر؟

قَدْ بيّنتُ فِي كلامٍ سابق، وَهٰذَا كلامٌ خطير جدًا، أن الْأَنْبِيَاءَ والمُرسلين ليسوا معصومينَ من الوقوعِ فِي الصغائرِ ابتداءً قولًا واحدًا.

الثانية: أنهم معصومونَ من الإقرارِ عليها، يَعْنِي: لازم سيتوبونَ سيتوبونَ قولًا واحدًا، ولكن اللهُ عزوجل  عصمهم من عدم التوبةِ هٰذِه، بَلْ لَا بُدَّ وأن يتوبون، والآياتُ الَّتِي تُبيّنُ أن نَبِيِّنَا صلى الله عليه و سلم  وقعَ فِي الصَّغَائِر كثيرة سأذكرُ بعضها، ولكن إن كان خيرُ البرية قَدْ وقعَ فيها، إذًا مِمَّا لَا شَكَّ فيه مَنْ دونهُ من إخوانهِ من الْأَنْبِيَاءِ والمُرسلين لَا بُدَّ وأن يكونوا قَدْ وقعوا فيها.

انظر ماذا يَقُولُ المولى عزوجل  لنبينا فِي أولِ سورة الفتح: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ [الفتح: 2]، طيب، (ما تقدم من ذنبك) أي: الْمَاضِي، يَقُولُ القائل: قبل البعثة، ماشي يا سيدي قبل البعثة. طيب، وَقَوْلُهُ: (وما تأخر) نعمل فيها أيه؟ عارف يَقُولُ لك أيه؟ يَقُولُ لك: هذَا من باب التواضع. مَنْ الَّذِي تواضعَ؟ هل النَّبِيّ هُوَ الَّذِي قَالَ: (وما تأخر)؟ حَتَّى يُقال أَنَّهُ من باب التواضع؟! أم أن الله هُوَ الَّذِي يتواضعُ له؟! أمرٌ عجيب وتأويلات سخيفة باردة تُنمي عن ضَعْف الدين – عِيَاذًا بِاللَّهِ تَعَالَىٰ-.

ماشي، وماذا يقولون فِي سورة الشرح المعروفة بالانشراح؟ ﴿وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ2 الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ 3﴾ [الشرح: 2، 3]، ماذا سنقول؟ لِذَٰلِكَ نَبِيِّنَا صلى الله عليه و سلم  كان كثيرًا ما يدعو بدعاءٍ وَهُوَ دُعاءٌ جامع، هذَا الدُعاء رواه أبو داود V عن أبي هريرة I قَالَ: كان صلى الله عليه و سلم  يَقُولُ: «اللهمَ اغفر لي ذنبي كُلَّه: دقهُ وجُلَّهُ، أولهُ وآخرهُ، وعلانيتهُ وسرهُ». وأنا أسأل: كان يدعو هذَا الدُعاء لما؟

«اللهمَ اغفر لي ذنبي كُلَّه: دقهُ وجُلَّهُ، أولهُ وآخرهُ، وعلانيتهُ وسرهُ»، إذًا كان يقعُ مِنْهُ الذنب.

نتحذلق ونقول: كان يقولُ هذَا من باب التواضع! أرأيتم آحاد النَّاس دونَ الْأَنْبِيَاء يتواضع ويقول: إنني أقعُ فِي الحرام واستغفرُ ربي؟ أيُّ تواضعٌ هذَا؟ التواضع: أن تفعلَ شَيْئًا من الطاعة، من الخير، ثُمَّ لا تذكره، ولا تجعلهُ مثبطًا لك عَلَى فعل الأكثر، هذَا هُوَ التواضع.

أما التواضع تُدخلونه فِي باب الحرام وتجعلونَ مَنْ يفعلُ الحرام يتواضع ويقول: اللهمَ اغفر لي.

هٰذِه واللهِ من الغرائب الفكرية، نسأل الله السلامَ والعافية.

المُعتزلة كما لا يخفى، من الفرق الضالة الَّتِي تأتي بالعجائب، ولا أدري قديمًا وحديثًا، المعتزلة كيف يوهمون الأمراء والحُكام بِأَنَّهُمْ خيرُ البرية، وأنهم لا يُكفرونَ أحد، وأنهم طوع للحُكام، وهم أكبرُ مَنْ يُكفرُ الْمُسْلِمِينَ، وهم أكبرُ مَنْ يجوزون الخروج عَلَى الحُكام، بَلْ يجوزون الخروج عَلَى الحاكم المُسلم الَّذِي يُطبقُ شريعة اللهِ عزوجل ، ولكن فيه بعض الشوائب فِي نفسهِ خاصة لا فِي أُمتهِ، يَعْنِي: كانه يشرب الخمر، ولكن لا يدعو إِلَى الخمر، بَلْ يُقيمُ الحد عَلَى مَنْ شَربَ الخمر، يجوزونَ الخروجَ عَلَيْهِ بماذا؟ بالسلاح، لنزع الحُكم مِنْهُ.

أظنُ تعلمون دولة الموحدين ماذا فعلت فِي دولة المرابطين، وغير ذَلِكَ من الأمور الَّتِي يَعْنِي - عِيَاذًا بِاللَّهِ تَعَالَىٰ- أتأذى من الكلامِ فيها وبها، نسأل الله السلامَ والعافية.

المعتزلة زعموا أن النَّبِيّ صلى الله عليه و سلم  لا تقع منه الصَّغَائِر البتة، ولكن لَمْ يتعرضوا لمن قبلهم من الْأَنْبِيَاء، وقطعًا نصوص الكتابِ وَالسُّنَّة -كما سبق- تردُ عليهم، وَهذِه الْمَسْأَلَة إن شئتها فقد فصلتُها فِي التسعينيات فِي محاضرات كثيرة جدًا، لا أتذكرها لِأَنَّ الْكَلَام مرَ عَلَيْهِ قُرابة أربعين سنة، فَهٰذَا إن شئتَ ابحث عنها وَهِيَ موجودة إِنْ شَاءَ اللهُ.

مِمَّا لَا شَكَّ فيه، موقف مَنْ دونهم قَدْ بيناهُ آنفا.

إِلَى هنا تنتهي هٰذِه النُبذة عن الصغيرة أَوْ عن الصَّغَائِر.

الذنبُ الَّذِي أدنى دركةً منها، أي فِي الدركةِ الَّتِي تحتها ما يُسمى بالكبيرة، خُلاصةُ الكلامِ فيها: أن الكبيرةَ، كُلُّ مَنْ تركَ مأمورًا فقد ارتكبَ كبيرة، وكُلُّ مَنْ فعلَ محظورًا فقد ارتكبَ كبيرة.

وأعني: كُلُّ مَنْ تركَ مأمورًا واجبًا، فقد وقعَ فِي الكبيرة، مَنْ فعلَ محظورًا محرمًا فقد وقعَ فِي الكبيرة.

قَدْ يقولُ القائل: سبعُ من الْكَبَائِر، أَوْ الكبائرُ سبعُ أَوْ الكبائرُ تسع. قُلت: لا، ورب الكعبة، الكبائرُ أقربُ إِلَى السبعمائة منها إِلَى السبع، وَهٰذَا بنص كِتَاب الله، وبنص سُنّةِ رَسُول الله صلى الله عليه و سلم .

أنا أسأل:

-أين الكذب، أليس من الْكَبَائِر؟

-أين الخيانة، أليست من الْكَبَائِر؟

-أين الغدر، أليس من الْكَبَائِر؟

-أين الفجور، أليس من الْكَبَائِر؟

- أين خُلفُ الوعد، أليس من الْكَبَائِر؟

وغير ذَلِكَ، مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ، لا حصرَ له، النَّبِيّ صلى الله عليه و سلم  يَقُولُ: «أربعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كان مُنافقًا خالصًا، وَمَنْ كانت فيه خصلة منهُن كانت فِيهِ خصلة من النِّفَاق»، أتكونُ هٰذِه الخصلة لَيْسَت كبيرة؟ «إذا حدثَ كذب». انْتَهَى الموضوع عَلَى تفصيلٍ أنتم أخبرُ بِهِ.

ولكن الَّذِي نعتقدهُ اعتقادًا جازمًا: أن صاحب الكبيرة لَيْسَ كافرًا، خلافًا لأهل البدعِ والضلال من الخوارجِ والمعتزلة، صاحبُ الكبيرة لَيْسَ كافرًا، وإن ماتَ مُصرًا عليها مُتلبسًا بها، وأتحدى أن يُذكر نصٌ واحد يقولُ أن مَنْ ماتَ مُتلبس مُصر عَلَى كبيرة أَنَّهُ من الْكَافِرِين – عِيَاذًا بِاللَّهِ تَعَالَىٰ-.

إِنَّمَا هذَا كلام الضُلال، أنهم يُكفرونَ صاحب الكبيرة إن ماتَ وَلَمْ يتب، فالخوارج قالوا: إِنَّه كافر فِي الدُّنْيَا، وكافرٌ فِي الْآخِرَة، ومخلدٌ فِي نارِ جهنم خالدًا مُخلدًا فيها أبدًا.

أما المعتزلة كعادتِهم، رقصوا عَلَى السلم، قالوا: هُوَ فِي منزلةٍ بين المنزلتين. يَعْنِي أيه؟ يَعْنِي لا هُوَ مسلم ولا هُوَ كافر. سُبْحَانَ اللَّهِ، من أين جئتم بهذه المنزلة، أيوجد نصٌ واحد فِي كِتَاب الله بيّنَ أنكَ لا تتقدم ولا تتأخر؟ ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ﴾ [المدثر: 37]، الإنسانُ بين ثنتينِ:

- إِمَّا إنك ماشي لقدام.

- إِمَّا إنك ماشي للوراء.

أعني: فِي العمل، ما فيش حاجة اسمها (واقف) هنا، ما فيش حاجة اسمها (خط الحياد أقف عَلَيْهِ)، ما فيش الْكَلَام دا عندنا، اللهُ عزوجل  يَقُولُ: ﴿يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ [الانشقاق: 6]، فوصفُ الْإِنْسَان، كُلُّ الْإِنْسَان، (ال) هُنا هِيَ الجنسية، وعلامتها صحت كُلّ بدلًا منها، أي كُلَّ إنسان كادح، ما فيش حد واقف أبدًا، هُم جعلوه بين منزلتين: لا هُوَ مسلم ولا كافر.

طيب، نسميه أيه؟ لا يجاوب، لن يجد له اسم. نقلش ونقول نسميه أيه؟ ما يصلح. طيب ماشي، لا هُوَ كافر ولا مسلم فِي الدُّنْيَا، طيب، لو ماتَ وَلَمْ يتب منها؟ قالوا: هُوَ فِي الْآخِرَة فِي نار جهنم خالدًا مُخلدًا فيها، العجب: أن شرذمة منهم قالوا: نحنُ لَمْ نقل أَنَّهُ كافر، بَلْ هُوَ فِي نارِ جهنم خالدًا مُخلدًا فيها أبدًا.

قُلنا: إذًا أنتم جوزتم عَلَى الْمُسْلِم أن يكونَ من أهل التَّوْحِيد، وفي نارِ جهنم ولا يخرج منها. تصوروا، هذَا هُوَ مذهب المعتزلة.

إذًا فِي حقيقة الأمر هم اختلفوا فِي الاسم مع الخوارج فِي الدُّنْيَا، ولكن اتفقوا معهم فِي الحكم فِي الْآخِرَة قولًا واحدًا، وَهٰذَا مِمَّا لَا شَكَّ فيه ضلالٌ مُبين.

لِذَٰلِكَ سأضربُ بعض الأمثلة، ونُبين فساد هذَا الاعتقاد، وأولُ هٰذِه الأمثلة: الزنا عِيَاذًا بِاللَّهِ تَعَالَىٰ، الزنا كبيرةٌ من الْكَبَائِر، وفاعلُها لَيْسَ كافرًا بالنصِ والإجماع، أما النَّصّ: قَالَ تَعَالَى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ [النور: 2]. وقال صلى الله عليه و سلم : «خذوا عني، خذوا عني، قَدْ جعلَ اللهُ لهنَّ سبيلًا: البكرُ بالبكر جلدُ مائة ونفي سنة، والثيبُ بِالثَّيِّبِ جلدُ مائة والرجم».

أنا أسأل: ما حكمُ الله عزوجل ؟ وما حكمُ نبيهِ صلى الله عليه و سلم  فيمن زنى سواء أكان بكرًا، أم ثيبًا، سواء أكان رجلًا أَوْ امرأة؟

اسمع: أن الحُكمَ فِي الزاني البكر هُوَ الجلد والتغريب، ذَكَرَ وأنثى، وفي الزاني الثَّيِّب الجلد والرجم.

فلو كان من الْكَافِرِين لأمرَ بقتلِهما، ولكن هنا لَمْ يأمر بقتل البكر سواءٌ أكان ذكرًا أم أُنثى.  قَدْ يَقُولُ القائل: ولكن أمرَ برجم الثَّيِّب وَهٰذَا قتل، وَهٰذَا يدل عَلَى أَنهم كُفار.

قُلت: لا واللهِ، هذَا هُوَ عينُ الباطل، أتدري لما؟ انتبه لدقة الْكَلَام. أنهما لو كانا كافرينِ لقُتلا بالسيف ردةً؛ لِأَنَّ المُرتد يُقتلُ بالسيف، قَالَ صلى الله عليه و سلم : «لا قودَ إِلَّا بالسيف». وما قُتلَ أحدٌ ارتدَ إِلَّا بالسيف، ولكن هذَا رجم، كيف تقيسونَ هذَا عَلَى ذَاكَ؟

- ثُمَّ أن الثَّيِّب الزاني يُرجم بلا استتابة، انتبه لكلامي.

- أما المُرتد، فلا يُحلُ لأحدٍ ان يقتله إِلَّا بعدَ استتابتهِ بالسيف، أي يوضع السيف عَلَى رقبتهِ ويقولُ له: عُد وَإِلَّا قُتلتَ.

السؤال: هل يُستتاب الثَّيِّب الَّذِي زنى؟ أمرٌ عجيب واللهِ!

ثُمَّ الْثَّالِث: أن الكُفرَ لا كفارةَ له لا عندنا ولا عندكم، ولا كفارةَ له إِلَّا أن تتوبَ مِنْهُ وتعود إِلَى الْإِسْلَام، هٰذِه هِيَ كفارتهُ. يَعْنِي لَيْسَ الحدُ كفارةً للكُفرِ، يَعْنِي قتلهُ نفسهُ هُوَ – المُرتد هذَا- لَيْسَ كفارةً له.

وأنا أسأل: لو أقمنا الحد عَلَى الزاني أَوْ عَلَى الزانية، أليس الحدُ كفارةً له؟ الجوابُ بِالنَّصِّ: بلى.

إذًا كيفَ تزعمونَ هذَا الزعم الباطل، وأنهم إن لَمْ يتوبا فهم من الكُفار؟

انظر: روى البُخاري V، عن عُبادة بن الصامت I أن رَسُول الله صلى الله عليه و سلم  قَالَ وحولهُ عصابةً من أصحابهِ -يَعْنِي مجموعة-: «بايعوني عَلَى ألا تُشركوا باللهِ شَيْئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتونَ ببهتانٍ تفترونه بين أيديكم وأرجُلكم، ولا تعصوا فِي معروف، فمن وَفَى منكم فأجرهُ عَلَى الله، ومَن أصابَ من ذَلِكَ شَيْئًا فعوقِبَ فِي الدُّنْيَا فهو كافرةٌ له، ومن أصابَ من ذلكَ شَيْئًا ثُمَّ سترهُ الله فهو إِلَى الله، إن شاء عفا عَنْهُ، وإن شاء عاقبهُ» فبايعناهُ عَلَى ذَلِكَ.

أخبروني، يَعْنِي لو واحد كافر ستر كفره، إِنْ شَاءَ اللهُ عفى عَنْهُ، وإن شاء اللهُ عاقبهُ؟! إذًا ما معنى قول المولى عزوجل : ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ [النساء: 48]. يا قوم اتقوا الله وكفانا شرذمة، وتفرقة عَلَى أُمور أقسمُ بالله هِيَ أوضحُ من الشمسِ فِي ربعة السماء، ولا تحتاجُ إِلَى أي دليل لبيانِها، أما قَالَ صلى الله عليه و سلم : «شفاعتي لأهل الكبائرِ من أُمتي»؟ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ الَّذِينَ تابوا؟ الجوابُ: لا، الَّذِينَ لَمْ يتوبوا، وَهٰذَا هُوَ محلُ البحث.

روى الحاكم عن خُزيمةَ بن ثابت I قَالَ: قَالَ صلى الله عليه و سلم : «أيُما عبدٍ أصابَ شَيْئًا مِمَّا نهى اللهُ عنه ثُمَّ أُقيمَ عَلَيْهِ حدهُ، كفرَ عَنْهُ ذَلِكَ الذنب»، انتهت.

ومثالهُ: «مَنْ أصاب حدًا فُعُجلَ عقوبتهُ فِي الدُّنْيَا، فاللهُ أعدلُ من أن يُثني عَلَى عبدهِ العقوبةِ فِي الْآخِرَة».

وَعَلَيْهِ؛ يُخرق قَوْلُهُ صلى الله عليه و سلم : «لا يزني الزاني حين يزني وَهُوَ مؤمن، ولا يسرقُ السارقُ حين يسرقُ وَهُوَ مؤمن، ولا يشربُ الخمر حين يشربُها وَهُوَ مؤمن»، الإيمان المنفي هنا هُوَ الإيمان الواجب، وَلَيْسَ ما نُسميهِ بالإيمان المُطلق، لَيْسَ مُطلق الإيمان، فالإيمان المُطلق لَيْسَ قسيمًا للكُفر، إِنَّمَا هُوَ قسيمٌ للإسلام، أما مُطلقُ الإيمان فهو الَّذِي قسيم للكفر.

فهنا هذَا الحديث هُم يستدلونَ بِهِ من جهلهم الفاضح، لعدم التفريقِ بين الإيمان الُمطلق، ومطلق الإيمان، فَهٰذَا المنفي هنا هُوَ الإيمان الواجب.

لِذَٰلِكَ انظر ماذا يقولُ ابْن القيم الجوزي V: "وَلَيْسَ المُرادُ تقييد نفي الإيمان المُطلق هنا حال مُباشرة تِلْكَ الأفعال فَقَطْ"، يَعْنِي يَقُولُ لك: الإيمان نفسه لَمْ يُنفى حال فعلهِ الزنا، بحيثُ إذا كملت مُباشرتهُ وانقطع فعلهُ؛ عاد إِلَيْهِ الإيمان، يَعْنِي كأنه يَقُولُ: إن نزعَ من الزنا، لَيْسَ معنى ذَلِكَ أن بمجرد النزع أن الإيمان رجعَ إِلَيْهِ، بَلْ هذَا النفي مُستمرٌ إِلَى حينِ التوبة، وَإِلَّا فما دامَ مُصرًا يُباشر الْفِعْل، فالنفيُّ لاحق بِهِ ولا يزولُ عَنْهُ اسمُ الذنب، والأحكامُ المُترتبة عَلَى المُباشرة إِلَّا بالتوبةِ النصوح، ثُمَّ قَالَ: «واللهُ سبحانه و تعالى  أَعْلَى».

لِذَٰلِكَ أنا أقول: أن أهلَ السُّنَّة قاطبة أجمعوا عَلَى أن صاحبَ الكبيرة لا يكونُ بها كافرًا، لِذَٰلِكَ يقولُ ابْن قيم الجوزي V فِي نونيتهِ:

وأشهدُ عليهم أنهم لن يُخلدوا

 

 أهل الكبائرِ فِي حميمٍ آن

قولهُ: "وأشهدُ عليهم"، أي: يشهد عَلَى جميعِ أهل السُّنَّة أنهم لَمْ يُخلدوا أهل الكبائرِ فِي حميمٍ آن.

قَدْ يقولُ القائل: إن النَّبِيَّ صلى الله عليه و سلم  قَالَ: «إذا زنى العبدُ خرجَ عَنْهُ الإيمان، فكان عَلَى رأسهِ كالظُلة، فإذا أقلعَ رجعَ إِلَيْهِ».

قُلتُ: هذَا الحديث مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ صحيح، رواهُ أبو داود والحاكم عن أبي هُريرةَ I، ولكن لَيْسَ فِي الحديث أَنَّهُ خرجَ من الْإِسْلَام، الحديث يَقُولُ: أَنَّهُ خرجَ من الإيمان.

قَدْ يقولُ القائل: ولكن الإيمان هُنا لَمْ يقترن بشيءٍ حَتَّى يُقال: أَنَّهُ يتضمنُ الْإِسْلَام. قُلتُ: بَلْ اقترن، أتدري ما هِيَ القرينة؟

قُلتُ: الحديث نطقَ بها، «فكان عَلَى رأسهِ كالظُلة»، أي: كالمظلة. وأنا أسأل: لو فقكَ مظلة أنتَ مستفيدٌ منها أم لا؟ مستفيدٌ منها: إذًا هٰذِه قرينة تُبيّنُ مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أن خروجَ الإيمان لَمْ يخرج معهُ الْإِسْلَام، وَإِلَّا ما استفدتَ من هٰذِه الظُلة بشيءٍ.

وبذلك تبيّنَ صحة مذهبِ أهل السُّنَّة وَالْجَمَاعَة بأن صاحب الكبيرة الَّذِي ماتَ وَلَمْ يتب منها، ومُصرًا عليها، ومُتلبسًا بها، لَيْسَ كافرًا لا فِي الدُّنْيَا ولا فِي الْآخِرَة عَلَى تفصيلٍ سبق، وبطلَ قول الخوارج والمعتزلة.

أكتفي بهٰذَا القدر، وَصَلَّىٰ اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد، وجزاكم اللهُ خيرًا، والسلامُ عليكم ورحمة اللهِ وبركاته.

الطالب: أحسن اللهُ إليكم شيخنا، هذَا سؤال يَقُولُ: ذكرتم أن مُطلق الإيمان هُوَ قسيم الكفر؟

الشَّيْخ: نعم.

الطالب: فما معنى قسيم الكفر؟

الشَّيْخ: يَعْنِي كَلِمَة قسيم دي، سأقول لك مَثَلًا: قُلنا الحديث: صحيحٌ، وحسن.

إذًا الصحيح قسمٌ من أقسام الحديث، وحسن قسمٌ من أقسام الحديث.

أما الحسن بالنسبة للصحيح فهو قسيمهُ تحتَ مظلةٍ واحدة.

وصلت هٰذِه المعلومة؟

وَكَذَلِكَ دينُنا الْإِسْلَام.

الدين:

- إسلامٌ.

- إيمانٌ.

-إحسان.

فالإسلام قسم من أقسام الدين، والإيمان قسمٌ من أقسام الدين، والإحسان قسمٌ من أقسام الدين، ولكن الإحسان قسيم الإيمان وقسيم الْإِسْلَام تَحْتَ مظلة اسمها الدين. هذَا هُوَ المُراد.

الطالب: أحسن اللهُ إليكم شيخنا، ذكرتم أن فِي قول أبي إسحاق الإسفراييني تخريجًا قَدْ خرجتموه.

الشَّيْخ: أيوه.

الطالب: فهل لتقسيم أبي إسحاق الإسفراييني، تقسيمهُ للذنوب عَلَى الكبيرة والكُفر فَقَطْ.

الشَّيْخ: أي نعم.

الطالب: ذكرتم أن لهذا القول تخريج أنتم خرجتموه يَعْنِي.

الشَّيْخ: هذَا تخريج ثابت طبعًا مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ، إن شئت من مصادرهُ جئتُ بكَ، ولكن يكفينا أنهُ ذُكرَ من أكابرِ أهل العلمِ، وسآتي لك بالمواضع تفصيلًا، وَإِلَّا يَعْنِي كُنت فِي غنى عن هذَا المجهول من أولهِ إِلَى آخرهِ، سأذكرهُ لك إِنْ شَاءَ اللهُ.

الطالب: أحسنُ الله إليك، هذَا سائل يسأل يَقُولُ: نُريدُ توضيحًا لمعنى: مُطلق الإيمان، والإيمان المُطلق؟ وما رأيكم فِي المقولة الَّتِي تقول: أن الإسلامَ والإيمان إذا اجتماعا تفرقا، وإن تفرقا اختلفا فِي الْمَعْنَى؟

الشَّيْخ: لا، ما فيش حد قَالَ: اختلفوا فِي الْمَعْنَى، إذا تفرقا تضمنَ كُلُّ واحدٍ منهما الآخر، وَلَيْسَ اختلفا فِي الْمَعْنَى.

أهل السُّنَّة يقولون: أن الإسلامَ أَوْ الإيمان إذا ذكرا مُفردًا، أي: عَلَى صورة الإفراد فِي آيةٍ أَوْ حديث، تضمنَ الإيمان، وإذا ذَكَرَ الإيمان مُفردًا تضمن الْإِسْلَام، ولكن إذا ذكرَ الْإِسْلَام والإيمان فِي سياقٍ واحد، كان الإسلامُ شيء، والإيمانُ شيءٌ آخر.

ومثلُها فِي كِتَاب الله: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ [الحجرات: 14].

عَلَى فكرة المعتزلة فِي هٰذِه الآية، يقولون: أسلمنا، هُم كفار، بس معناها اللغوي: (سلمنا). أي حاجة، أي حاجة فِي أي حاجة.

كَذَلِكَ حديث جبريل: ما الْإِسْلَام؟ ما الإيمان؟ ما كذا...؟

أما بالنسبة لتفصيل: مطلق الإيمان، والإيمان اَلْمُطْلَق، هٰذِه تحتاجُ إِلَى محاضرة وحدها، اجتهد إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى أن أُدخلها فِي أي مَسْأَلَة، لِأَنَّ بينهم تسع فروق لَا بُدَّ من ذِكرها مع شَيْءٍ من التفصيل، وَهِيَ موجودة عَلَى ...، مش فاكر بالضبط موجودة فِي أي كِتَاب، ولكن هِيَ موجودة مِمَّا لَا شَكَّ فيه، موجودة فِي أصول الهم، أظن المجلد الْثَّانِي، ستجد لها تسع شروط مفصلة، وموجودة ولكن بطريقة أُخرى فِي كِتَاب يُسمى: الأصلُ فِي الطَّلَاق الحظر. لي كِتَاب كدا اسمه: الأصل فِي الطَّلَاق الحظر، ذاكر فِي آخرهِ هٰذِه الْمَسْأَلَة، بس ذاكرها من باب أيه؟ مُطلق الأمر ولأمر اَلْمُطْلَق.

الطالب: أحسن اللهُ إليك شيخنا، هُوَ الأصل الخَامِس والتسعون من أصول الفهم؟ نعم، الشيء اَلْمُطْلَق، ومطلق الشيء.

الشَّيْخ: دا سؤال دا يا عم الشَّيْخ، أنا مش فاهم؟

الطالب: لا يا شيخنا، أنا أذكركم أن هذَا الفرق بين مطلق الشيء، والشيء المُطلق، والأصلُ الخَامِس والتسعون من أصول الفهم.

الشَّيْخ: أصول الفهم، جزاك الله خير واللهِ، أنت حافظ أكثر مني.

الطالب: هذَا سؤال يَقُولُ: قُلتم أن الْأَنْبِيَاء يَجُوز منهم الوقوع فِي الصَّغَائِر؟

الشَّيْخ: أنا ما قلتش حاجة يا بني، دا اللي قَالَ ربنا، أنا ما قلتش حاجة.

الطالب: يَقُولُ: فهل ممكن تُمثل لنا بعض هٰذِه الصَّغَائِر، وهل ممكن تأويلها بأنها أخطاء وَلَيْسَ صغائر؟

الشَّيْخ: يَعْنِي أيه خطأ؟ ما فيش حاجة اسمها أخطاء، يَعْنِي أيه خطأ يَعْنِي؟ يَعْنِي لا يؤاخذ عليهِ؟ لا يؤاخذ عَلَيْهِ ابتداءً؟ عَلَى فكرة: الخطأ ذنب فِي حد ذاتهِ، ولكن الله عزوجل  لَمْ يؤاخذنا بما ترتبَ عَلَى الذنب. انتبه إِلَى هٰذِه القضية. النسيان ذنب أصلًا؛ لِذَٰلِكَ هٰذِه مَسْأَلَة كبيرة جدًا.

فقول النَّبِيّ صلى الله عليه و سلم : «رُفعَ عن أُمتي الخطأ والنسيان واما استكرهوا عَلَيْهِ»، هُوَ الخطأ نفسه لَمْ يُرفع، ذَلِكَ فهم الحديث: رفع إثم ذنب الخطأ، فالخطأ ذنب، الذنب سيترتب عَلَيْهِ إثم، اللهُ عزوجل  رفعَ هذَا الإثم وَلَمْ يرفع الذنب، فهو ذنب فِي حقيقة الأمر، وَهذِه تفضُ رأس الْمَسْأَلَة من أولِها إِلَى آخرِها.

فلذلك الْإِنْسَان لَا بُدَّ وأن ينتبه، الله عزوجل  قَالَ: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ [البقرة: 286]، الله عزوجل  يَقُولُ: قَدْ فعلت. والسؤال: كان سيؤاخذهم ليه؟ إذًا هُوَ ذنب.

فلما طلبَ الصحابة: ربنا لا تؤاخذنا بما نسينا أَوْ أخطأنا.

قَالَ: قَدْ فعلتُ.

إذًا المولى عزوجل  رفعَ عنهم هذَا المُترتب عَلَى الذنب.

إذًا فِي حقيقة الأمر الخطأ والنسيان فِي حقيقة الأمر أنهم ذنبان، بَلْ واللهِ قَدْ يكونانِ فِي بعض المواقف من أعظم الذنوب، نسأل الله السلامَ والعافية، كمن -عِيَاذًا بِاللَّهِ تَعَالَىٰ- يَعْنِي تزوجَ امرأة، ثُمَّ تبيّنَ له أنها أُختهُ من الرضاعة مَثَلًا، أَوْ أُختهُ الَّتِي كانت تائهة من عشرين سنة مَثَلًا.

هذَا زنى؟ لا، هذَا خطأ.

هُوَ آثمٌ؟ قطعًا آثم.

اللهُ عزوجل  رفعَ هذَا الإثم.

الطالب: شكرَ اللهُ لكم، وأحسن اللهُ إليكم شيخنا، ونفعَ بكم.

الشَّيْخ: جزاكم اللهُ خير، السَّلَام عليكم.

الطالب: وعليكم السَّلَام.

  

ملفات