مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه155
مسند احمد
حدثنا محمد، حدثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبي أمامة بن سهل، قال: سمعت أبا سعيد الخدرى، قال: نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ، قال: فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد، فأتاه على حمار، قال: فلما دنا قريبا من المسجد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قوموا إلى سيدكم - أو خيركم - "، ثم قال: " إن هؤلاء نزلوا على حكمك " قال: تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم (1) ، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لقد قضيت بحكم الله " وربما قال: " قضيت بحكم الملك " (2)
وفي هذا الحَديثِ تَحْكي أمُّ المؤمِنينَ عائِشةُ رَضيَ اللهُ عنها أنَّ سَعدَ بنَ مُعاذٍ رَضيَ اللهُ عنه -وكان سيِّدَ الأوْسِ- أُصيبَ يَومَ غَزْوةِ الخَندَقِ سَنةَ خَمسٍ منَ الهِجْرةِ؛ فقدْ رَماه رَجلٌ مِن كفَّارِ قُرَيشٍ يُقالُ له: حِبَّانُ بنُ العَرِقةِ، وهو حِبَّانُ بنُ قَيسٍ مِن بَني مَعِيصِ بنِ عَامِرِ بنِ لُؤَيٍّ، رَماه في «الأكْحَلِ»، وهو عِرقٌ في الذِّراعِ، فأقامَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ له خَيْمةً في المَسجِدِ النَّبَويِّ؛ ليَكونَ قَريبًا منه.
فلَمَّا هزَمَ اللهُ الأحْزابَ، وردَّهم خاسِرينَ، ورجَعَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن الخَندَقِ إلى بَيتِه بالمَدينةِ؛ وضَعَ السِّلاحَ واغتَسَلَ، فجاءهُ جِبْريلُ عليه السَّلامُ وهو يَنفُضُ رَأسَه مِن غُبارِ المعركةِ، فقال للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: وضَعْتَ السِّلاحَ؟ واللهِ ما وضَعْتُه، اخرُجْ إليهم، قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: فأين أذهَبُ؟ فأشارَ جِبْريلُ عليه السَّلامُ إلى بَني قُرَيْظةَ، وهمْ قَبيلةٌ مِن اليَهودِ كانوا بالمَدينةِ قبْلَ هِجْرةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إليها، وعقَدَ معَهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَهدًا، ولكنَّهم خانوا عَهْدَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في أشدِّ الأوْقاتِ؛ بأنْ تَحالَفوا معَ الأحْزابِ ضدَّ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والمؤمِنينَ، وكادوا أنْ يُدْخِلوا جُيوشَ المُشرِكينَ إلى المَدينةِ مِن ناحِيَتِهم، إلَّا أنَّ اللهَ أدرَكَ المُسلِمينَ بعِنايَتِه ورَحمَتِه.
فجاءهمْ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فحاصَرَهم بِضعَ عَشْرةَ لَيلةً، فنَزَلوا على حُكمِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فرَدَّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ الحُكمَ فيهم إلى سَعدِ بنِ مُعاذٍ رَضيَ اللهُ عنه، فأرْسَلَ إليه، فلَمَّا حضَرَ قال: فإنِّي أحكُمُ فيهم أنْ تُقتَلَ الطَّائِفةُ المُقاتِلةُ منهم، وهمُ الرِّجالُ، وأنْ تُسْبى النِّساءُ والذُّرِّيَّةُ، أيِ: الصِّبْيانُ، وأنْ تُقسَمَ أمْوالُهم.
وتَحْكي عائِشةُ رَضيَ اللهُ عنها أنَّ سَعدًا رَضيَ اللهُ عنه قال في مَرضِه: «اللَّهُمَّ إنَّكَ تَعلَمُ أنَّه ليس أحَدٌ أحَبَّ إلَيَّ أنْ أُجاهِدَهم فيكَ، مِن قَومٍ كَذَّبوا رَسولَكَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ»، يَعني كفَّارَ قُرَيشٍ؛ وذلك لأنَّ إيذاءَ كفَّارِ قُرَيشٍ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والمُسلِمينَ أوجَبَ عليهمُ الهِجْرةَ إلى المَدينةِ، وأخْرَجوهم مِن ديارِهم وأمْوالِهم، «اللَّهُمَّ فإنِّي أظُنُّ أنَّكَ قدْ وضَعْتَ الحَربَ بيْنَنا وبيْنَهم» يَقصِدُ الحَربَ معَ قُرَيشٍ، «فإنْ كان بَقيَ مِن حَربِ كفَّارِ قُرَيشٍ شَيءٌ فأبْقِني له»، يَسألُ اللهَ عزَّ وجلَّ ألَّا يُمِيتَه حتَّى يُجاهِدَ كفَّارَ قُرَيشٍ في حُروبٍ مُستَقبَلةٍ، إنْ لم يَنْتَهوا مِن إيذاءِ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإنْ كُنتَ وضَعْتَ الحَربَ بيْننا وبيْنهم، أي: لا يكونُ هناك حَربٌ بينَ المُسلِمينَ وقُرَيشٍ، «فافْجُرْها»، أي: جِراحَتَه وإصابَتَه حتَّى يكونَ مَوتُه فيها، واجعَلْ مَوْتي فيها؛ لأفوزَ بمَرْتَبةِ الشَّهادةِ، فانفَجَرَت مِن «لَبَّتِه»، أي: مِن مَوضِعِ القِلادةِ مِن صَدْرِه، وكان مَوضِعُ الجُرْحِ قد وَرِمَ حتَّى وصَلَ الوَرَمُ إلى صَدْرِه، فانفَجَرَ منه، وعندَ مُسلِمٍ: «من لَيلَتِه»، أي: وقَعَ مَوتُه اليومَ الَّذي دَعا فيه بهذا الدُّعاءِ، وقيلَ: إنَّ قَولَه: «مِن لَيلَتِه» هو الأصوَبُ، والأنسَبُ لسياقِ الرِّوايةِ، ومَوضِعِ الجُرحِ.
وكان في المَسجِدِ خَيْمةٌ لبَني غِفارَ، فلم يَفزَعْ أهلَ المَسجِدِ إلَّا الدَّمُ الخارِجُ مِن جُرحِ سَعدٍ رَضيَ اللهُ عنه يَسيلُ إلى أهلِ المَسجِدِ، فقالوا: يا أهلَ الخَيْمةِ، ما هذا الَّذي يَأْتينا مِن جِهَتِكم؟ فنَظَروا في الأمرِ، فإذا سَعدٌ رَضيَ اللهُ عنه يَسيلُ جُرحُه دَمًا، فمات مِن تلك الجِراحةِ.
قيلَ: إنَّ ظنَّ سَعدٍ كان مُصيبًا، وإنَّ دُعاءَه في هذه القِصَّةِ كان مُجابًا؛ وذلك أنَّه لم يقَعْ بيْنَ المُسلِمينَ وبيْنَ قُرَيشٍ مِن بعْدِ وَقْعةِ الخَندَقِ حَربٌ يكونُ ابتِداءُ القَصدِ فيها مِن المُشرِكينَ؛ فإنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تجَهَّزَ إلى العُمرةِ، فصَدُّوه عن دُخولِ مكَّةَ، وكادتِ الحَربُ أنْ تقَعَ بْينَهم، فلم تقَعْ؛ كما قال تعالَى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 24]، ثمَّ وقعَتِ الهُدْنةُ، واعتَمَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن قابِلٍ، واستمَرَّ ذلك إلى أنْ نَقَضوا العَهدَ، فتَوجَّه إليهم غازيًا، ففُتِحَتْ مكَّةُ؛ فعلى هذا فالمُرادُ بقولِه: «أظُنُّ أنَّكَ وضَعْتَ الحَربَ»، أي: أنْ يَقصِدونا مُحارِبينَ.
وفي الحَديثِ: فَضيلةُ سَعدِ بنِ مُعاذٍ رَضيَ اللهُ عنه.
وفيه: تَأْييدُ اللهِ لعِبادِه المؤمِنينَ بالمَلائكةِ يُقاتِلونَ معَهم، ويَدفَعونَ عنهم.