مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه160
مسند احمد
حدثنا يحيى، عن سعد بن إسحاق، قال: حدثتني زينب، عن أبي سعيد، قال: " حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين لابتي المدينة أن يعضد شجرها، أو يخبط "
خَصَّ اللهُ سُبحانَه وتعالَى بعضَ بِقاعِ الأرضِ بِبَركاتٍ لم يَجعَلْها في غيْرِها، وجَعلَ بعضَها مَوطِنَ الشُّرورِ والفِتنِ، وبعضَها مَوطِنَ الخيرِ والبَرَكاتِ، وقدِ اختُصَّتِ المدينةُ النَّبويَّةُ بكَثيرٍ منَ الخيرِ والبَرَكةِ.
وفي هذا الحَديثِ يَرْوي التَّابِعيُّ أبو سَعيدٍ مَوْلى المَهريِّ -وكان يعيشُ بالمدينةِ النَّبويَّةِ- أنَّه أصابَهم جَهْدٌ وشدَّةٌ منَ الفَقرِ وقلَّةِ الزَّادِ، فشَكَا لأبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضيَ اللهُ عنه حالَه، وأنَّه «كَثيرُ العِيالِ» وهُم أهلُ البيتِ، ومَن يَعُولُه الإنْسانُ، ويُريدُ أنْ يَترُكَ المدينةَ إلى أرضٍ ريفيَّةٍ فيها زِرعٌ وخِصبٌ، فأمَرَه أبو سَعيدٍ الخُدريُّ رَضيَ اللهُ عنه أنْ يَلزَمَ المدينةَ ولا يَترُكَها، وبيَّنَ له سببَ ذلك؛ فذكَرَ له أنَّهم خرَجوا مِن مكَّةَ معَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حتَّى قَدِموا عُسْفانَ، وهي قَريةٌ تقَعُ شمالَ غربِ مكَّةَ المكَرَّمةِ بمسافةِ 80 كم، فأقامَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بها لَياليَ وأيَّامًا، فقال النَّاسُ: «ما نحْنُ هاهنا في شَيءٍ»، أي: من شُغلٍ وعَملٍ، أو في شَيءٍ مِن أمرِ الحربِ، «وإنَّ عِيالَنا لَخُلوفٌ»، أي: بلا رجالٍ وليس عندَهم مَن يَحْميهم، خلَّفْناهم وراءَنا و«ما نَأمَنُ عليهم»، بل نخافُ عليهمُ العَدوَّ أنْ يأتيَهم ونحن غائبونَ، فبلَغَ ذلك القولُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فسأَلَهم: «ما هذا الَّذي بلَغَني من حَديثِكم» في شؤونِ عيالِكم وأهلِكم؟! ثُمَّ قال أبو سَعيدٍ رَضيَ اللهُ عنه: «ما أدْري كيف قال»، وهذا شكٌّ من أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضيَ اللهُ عنه في قسَمِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ باللهِ تعالى؛ هل قال: «وَالَّذِي أَحْلِفُ به، أَوْ وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ»، والأخيرُ هو من أكثَرِ ما كان يُقسِمُ به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأيضًا شكَّ أبو سَعيدٍ هل قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «لقد همَمْتُ أو إنْ شِئْتم»، والهَمُّ هو العَزمُ على الفِعلِ دونَ إتْيانِه، أو أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جعَلَ الأمرَ إليهم، وهو أنْ يأمُرَ بناقَتِه يُشَدُّ عليها رحلُها، فتُعَدُّ للرُّكوبِ والسَّفرِ، ثمَّ يركَبُ عليها ويواصِلُ السَّيرَ، ولا يَحُلُّ عن راحلتِه عُقدةً مِن عُقَدِ حِملِها ورَحلِها حتَّى يصِلَ المدينةَ، وهذا بيانُ أنَّ سببَ نُزولِهم في عُسْفانَ هو طلَبُ راحَتِهم وراحةِ دوابِّهم، ولولا ذلك لذهَبَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى المدينةِ مُسرِعًا ودونَ توقُّفٍ، وهو بيانٌ أيضًا لحُبِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الشَّديدِ للمدينةِ.
وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «اللَّهمَّ إنَّ إبْراهيمَ حرَّمَ مكَّةَ فجعَلَها حرَمًا»، أي: أعلَنَ بتَحريمِها، وعَرَّفَ النَّاسَ بأنَّها حَرامٌ بتَحريمِ اللهِ إيَّاها، «وإنِّي حرَّمْتُ المدينةَ»، فجعَلَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ «حَرامًا ما بينَ مَأْزِمَيْها»، أي: بيْنَ جبَلَيْها، وفي رِوايةٍ أُخْرى لمسلِمٍ: «إنِّي أُحرِّمُ ما بينَ لَابَتَيِ المدينةِ»، واللَّابةُ هي الحَرَّةُ، والمدينةُ المُنوَّرةُ بيْنَ حَرَّتَينِ: شَرقيَّةٍ، وغَربيَّةٍ، والحَرَّةُ هي الأرضُ ذاتُ الحِجارةِ السُّودِ كأنَّها أُحرِقَتْ بالنَّارِ، ويَحُدُّ المدينةَ شَمالًا جَبلُ ثَوْرٍ خَلفَ أُحدٍ، وجَنوبًا جَبلُ عَيْرٍ، ويَقصِدُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه حرَّمَ المدينَةَ كُلَّها. وقد قامَتْ لَجنةٌ رَسميَّةٌ في المَملكةِ العَربيَّةِ السُّعوديَّةِ بتَحديدِ حرَمِ المدينةِ، وجَعَلَت أمانةُ المدينةِ المنوَّرةِ عَلاماتٍ مِعماريَّةً على شَكْلِ أقْواسِ المسجدِ النَّبويِّ في أماكنَ عِدَّةٍ تُبيِّنُ هذه الحدودَ.
وبيَّنَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تَحْريمَه لها؛ وهو «ألَّا يُهراقَ فيها دمٌ»، أي: فلا يُقتَلُ فيها أحَدٌ بغيرِ وجهِ حقٍّ، وإراقةُ الدَّمِ الحرامِ مَمنوعةٌ في كلِّ مكانٍ، ولكنَّ إراقَتَه في مكَّةَ والمدينةِ أشَدُّ تَحريمًا، «ولا يُحمَلَ فيها سِلاحٌ لقِتالٍ» إلَّا إذا كان لدفاعٍ ونَحوِه، ولا يُقطَعُ شَجرُها إلَّا لعلَفٍ، وهو اسمٌ للحَشيشِ والتِّبْنِ والشَّعيرِ ونحوِه، والمرادُ به غذاءُ الدَّوابِّ.
ثمَّ دَعا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالبَرَكةِ في أقْواتِهم، فقال: «اللَّهمَّ بارِكْ لنا في مَدينَتِنا، اللَّهمَّ بارِكْ لنا في صاعِنا، اللَّهمَّ بارِكْ لنا في مُدِّنا»، أي: بارِكْ في الطَّعامِ الَّذي يُكالُ بهما، ويَحتمِلُ أنَّ الدُّعاءَ كان بأنْ تَحصُلَ البَرَكةُ في نفْسِ المَكيلِ، بحيث يَكْفي المُدُّ فيها مَن لا يَكْفِيه في غيرِها، وصاعُ المدينةِ: كيْلٌ يَسَعُ أربعةَ أمْدادٍ، والمُدُّ: رِطْلٌ وثُلُثٌ عندَ أهلِ الحجازِ، ورِطْلانِ في غيرِها، ثُمَّ كرَّرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ دُعاءَه: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا في صَاعِنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا في مُدِّنَا، اللَّهمَّ بارِكْ لنا في مَدينتِنا»، وزادَ: «اللَّهمَّ اجعَلْ معَ البَرَكةِ بركَتَينِ» يَدْعو اللهَ عزَّ وجلَّ أنْ يَزيدَ لأهلِ المدينةِ البَرَكاتِ والنِّعمَ ويُضاعِفَها لهم، ثُمَّ أقسَمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ باللهِ الَّذي نفْسُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والبَشَرِ أجْمعينَ بيَدِه، «ما في المدينةِ شِعْبٌ ولا نَقْبٌ»، وهو الطَّريقُ بيْنَ الجبَلَينِ «إلَّا عليه مَلَكانِ يحرُسانِها»، أي: يَحفَظانِها بأمرِ اللهِ تعالَى، حتَّى يرجِعَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ومَن معَه إلى المدينةِ، ثُمَّ أمَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أصْحابَه أنْ يَستَعدُّوا للسَّفرِ، فارتَحَلَ النَّاسُ وأقْبَلوا مُتوجِّهينَ إلى المدينةِ.
ثُمَّ حلَفَ أبو سَعيدٍ رَضيَ اللهُ عنه باللهِ سُبحانَه -وهو الَّذي يحلِفُ به كلُّ مُسلِمٍ- أنَّهم ما وضَعوا أمتِعَتَهم عن ظُهورِ دوابِّهم حينَ دَخَلوا المدينةَ، حتَّى أغارَ على المدينةِ بَنو عبْدِ اللهِ بنِ غطَفانَ، وهم قومٌ كان يُقالُ لهم في الجاهليَّةِ: بَنو عبدِ العُزَّى، فسَمَّاهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بَني عبدِ اللهِ، فسمَّتْهمُ العربُ بَني مُحوَّلةَ؛ لتَحويلِ اسْمِهم. والمَعنى: أنَّ المدينةَ حالَ غَيبتِهم عنها كانتْ مَحروسةً، كما أخبَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وما منَعَهم منَ الإغارةِ على المدينةِ قبلَ رُجوعِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأصْحابِه إلى المدينةِ شيءٌ منَ الأسْبابِ الظَّاهرةِ، إلَّا حِراسةُ اللهِ تعالى ومَلائكتِه.
ولا تَعارُضَ في هذا الحَديثِ بينَ دُعائِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالبَرَكةِ للمَدينةِ وبينَ وُقوعِ بعضِ أهْلِها في الشِّدَّةِ؛ إذ لا مُنافاةَ بينَ ثُبوتِ الشِّدَّةِ وثُبوتِ البَرَكةِ فيها، وتَخلُّفُها عن بعضٍ لا يضُرُّ.
وقيلَ: الأظهَرُ أنَّ البَرَكةَ فيها تكونُ في تَحْصيلِ القوتِ، وأنَّ المُدَّ بها يُشبِعُ ما يُشبِعُ ثلاثةُ أمثالِه بغيرِها، فتكونُ الشِّدَّةُ في تَحصيلِ المُدِّ، والبَرَكةُ في تَضْعيفِ القوتِ به.
وفي الحَديثِ: أنَّ اللهَ بارَكَ لأهْلِ المدينةِ في ثِمارِهم وأقْواتِهم، ووضَعَ البَرَكةَ في مَكاييلِهم.
وفيه: شدَّةُ محبَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ للمدينةِ، واشْتياقِه إليها إذا خرَجَ منها، حتَّى يعودَ.
وفيه: بيانُ فَضلِ المدينةِ، وحِراستِها في زَمنِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكَثرةِ الحرَّاسِ، واسْتيعابِهم الشِّعابَ؛ زيادةً في الكَرامةِ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.