مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه254
مسند احمد
حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن الأغر، قال: أشهد على أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، أنهما شهدا على النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله عز وجل يمهل حتى يذهب ثلث الليل، ثم ينزل فيقول: هل من سائل؟ هل من تائب؟ هل من مستغفر؟ هل من مذنب؟ " قال: فقال له رجل: حتى يطلع الفجر؟ قال: " نعم " (1)
ذِكْرُ اللهِ عزَّ وجلَّ مِن أيسَرِ العِباداتِ، ومعَ ذلكَ فهوَ مِن أعْظَمِها أجْرًا؛ إذ يَدُلُّ على تَعلُّق القَلبِ باللهِ.
وفي هذا الحديثِ يقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "ما اجْتَمَع قَومٌ" في أيِّ مكانٍ ولا سيَّما في المَسجِدِ، "يَذكُرون اللهَ" بما ورَدَ في الكِتابِ والسُّنَّةِ؛ مِن التَّسبيحِ والاستِغفارِ، وقِراءة القِرآنِ ودِراستِه، والصَّلاةِ، وغيرِ ذلك، "إلَّا حفَّتْهُم الملائكةُ"، أي: أحاطتْ بِهمُ المَلائكَةُ التي تَبحَثُ عن مَجالسِ الذِّكرِ، "وتَغشَّتْهم الرَّحمةُ"، أي: عمَّتْهُمُ رَحمةٌ مِنَ اللهِ، "ونزَلَتْ عليهم السَّكينةُ" وهي الطُّمأنينَةُ والوَقارُ، فتَطمَئنُّ قُلوبُهم بذِكْرِ اللهِ، "وذَكَرَهم اللهُ فِيمن عِندَه" فيُباهِي بِهم مَن عِندَهُ في المَلأِ الأَعلَى.
وقال: "إنَّ اللهَ يُمهِلُ"، أي: يَتأخَّرُ ويَنتظِرُ، "حتى إذا كان ثُلثُ اللَّيلِ الآخِرُ"، أي: يكونُ وقتُ آخِرِ اللَّيلِ، "نزَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ إلى هذه السَّماءِ"، والمرادُ بها السَّماءُ الدُّنيا كما جاء في الرِّواياتِ، وهذا النُّزولُ لا يُشابِهُ نُزولَ الخلْقِ؛ فهو نُزولٌ يَلِيقُ باللهِ تعالَى، لا يُكيَّفُ ولا يُمثَّلُ، ويَجِبُ إثباتُه صِفةً مِن صِفاتِ اللهِ سُبحانه وإمْرارُه كما جاء، "فنادَى: هلْ مِن مُذنِبٍ يَتوبُ؟ هلْ مِن مُستغفِرٍ؟ هل مِن داعٍ؟ هل مِن سائلٍ؟" وهذا تَرغيبٌ وحَضٌّ على القِيامِ للصَّلاةِ والدُّعاءِ في آخِرِ اللَّيلِ، والتَّوجُّهِ إلى اللهِ بطَلَبِ كلِّ ما يَرْجُوه الإنسانُ مِن ربِّه مِن حاجاتِ الدُّنيا والآخِرةِ؛ مِن التَّوبةِ مِن الذُّنوبِ التي ارْتَكَبَها في يَومِه، وطَلَب مَغفرتِها، بخُضوعٍ وخُشوعٍ، ويَستمِرُّ ذلك الفضْلُ مِن اللهِ "إلى الفجْرِ"، فتَنْتهي تلك المَيزةُ والأفضليةُ لهذا الوقْتِ مع أذانِ الفجْرِ.
ولعلَّ تَخصيصَ وَقتِ آخِرِ اللَّيلِ والثُّلثِ الأخيرِ بهذا الفضْلِ؛ لأنَّه وَقتٌ شَريفٌ مُرغَّبٌ فيه، وهو وَقتُ خَلوةٍ وغَفلةٍ، واسْتِغراقٍ في النَّومِ، واسْتِلذاذٍ به، ومُفارقةُ اللَّذَّةِ والرَّاحةِ صَعبةٌ على العِبادِ؛ فمَن آثَرَ القِيامَ لِمُناجاةِ ربِّه والتَّضرُّعِ إليه في غُفرانِ ذُنوبِه، وفَكاكِ رَقَبتِه مِن النَّارِ، وسأَلَهُ التَّوبةَ في هذا الوقتِ الشَّاقِّ، على خَلوةِ نَفْسِه بلَذَّتِها، ومُفارقةِ راحتِها وسَكَنِها؛ فذلك دَليلٌ على خُلوصِ نِيَّتِه، وصِحَّةِ رَغْبَتِه فيما عِندَ ربِّه، فضُمِنت له الإجابةُ الَّتي هي مَقرونةٌ بالإخلاصِ وصِدْقِ النِّيَّةِ في الدُّعاءِ؛ إذ لا يَقبَلُ اللهُ دُعاءً مِن قلْبٍ غافلٍ لاهٍ؛ فلذلك نَبَّه اللهُ عِبادَه إلى الدُّعاء في هذا الوقتِ، الَّذي تَخْلو فيه النَّفسُ مِن خَواطرِ الدُّنيا؛ لِيَسْتشعِرَ العبْدُ الإخلاصَ لِرَبِّه، فتَقَعَ الإجابةُ منه تعالى؛ رِفقًا مِن اللهِ بخَلْقِه، ورَحمةً بهم.
وفي الحديثِ: بَيانٌ فَضلِ ذِكرِ اللهِ تعالى في جَماعةٍ، وبَيانُ ما يكونُ لهم مِن اللهِ سبحانَه حالَ ذِكرِهم .