مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه282
مسند احمد
حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن مبارك، عن أسامة، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمه، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإن فيها عبرة، ونهيتكم عن النبيذ فاشربوا، ولا أحل مسكرا، ونهيتكم عن الأضاحي فكلوا "
في هذا الحَديثِ يَحكي بُرَيدةُ الأسْلميُّ رضِيَ اللهُ عنه: "أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ غَزا غَزْوةَ الفَتحِ"، والمُرادُ: فَتحُ مكَّةَ، وكان في السَّنةِ الثَّامنةِ مِن الهِجْرةِ، "فخرَجَ يَمْشي إلى القُبورِ حتَّى إذا أتَى أدْناها جلَسَ إليه كأنَّه يُكلِّمُ إنسانًا جالِسًا يَبْكي"، وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قد ذهَبَ لزيارةِ قَبرِ أُمِّهِ، وكان بالأبْواءِ بيْنَ مكَّةَ والمدينةِ، "فاستَقبَلَهُ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ" عِندَ رُجوعِهِ من زيارةِ قَبرِها "فقالَ: ما يُبكيكَ -جَعَلني اللهُ فِداءَك-؟ قال: سَأَلتُ ربِّي أنْ يَأذَنَ لي في زيارةِ قَبرِ أُمِّ مُحمَّدٍ، فأذِنَ لي، فسَأَلتُهُ أنْ يأذَنَ لي، فأستَغفِرَ لها فأبَى"؛ وذلِكَ لأنَّها كافِرةٌ، وَالاستِغْفارُ للكافِرينَ لا يَجوزُ؛ لأنَّ اللهَ لا يَغفِرُ لَهم أَبدًا، "إنِّي كُنتُ نَهيتُكُم عن ثلاثةِ أشْياءَ: عن لُحومِ الأضاحي أنْ تُمسِكوا بعدَ ثَلاثةِ أيَّامٍ" أنَّه صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم كان قد نَهى أن تَخزُنَ وتدَّخِرَ لُحومَ الأضاحي أكثَرَ مِن ثلاثةِ أيَّامٍ، وكان قد نزَلَ بالمدينةِ أُناسٌ كَثيرٌ فُقراءُ مَساكينُ يَحتاجونَ إلى الطَّعامِ، فأمَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بذلِكَ لِيُخرِجَ لهم النَّاسُ ما عِندَهم من لُحومِ الأضاحي، "فكُلوا ما بَدا لكم"، هذا بَيانٌ لِنَسخِ الحُكمِ المُتقدِّمِ، وأنَّ لهم أنْ يدَّخِروا ويَحفَظوا منها ما شاؤُوا، "وعن زيارةِ القُبورِ"، ونَهيتُكُم عن زيارةِ القُبورِ؛ "فمَن شاءَ فلْيَزُرْ"، وإنَّما كان نَهيُ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لهم في أوَّلِ الأمْرِ؛ لِقُربِ عَهدِهِم بالجاهِليَّةِ، وما يَفعَلونَهُ ويتَكلَّمونَ به مِن أُمورٍ تُخالِفُ الإسلامَ؛ مِن تَعظيمِ القُبورِ، وغَيرِ ذلِكَ، فلمَّا استَقرَّ الإسلامُ في نُفوسِهِم، ومَحا آثارَ الجاهِليَّةِ، وعَلِموا أحْكامَ الشَّرعِ؛ أمَرَهم بزِيارتِها؛ "فقد أُذِنَ لي في زيارةِ قَبرِ أُمِّ مُحمَّدٍ، ومَن شاءَ فلْيَدَعْ"، والمَعْنى: أنَّ الإنسانَ مُخيَّرٌ بيْنَ زيارةِ القَبرِ والتَّركِ، "وعن الظُّروفِ تَشرَبونَ فيها"، ونَهيتُكُم عن الشُّربِ في الظُّروفِ، وهي الأوعيةُ الَّتي كانوا يَشرَبونَ فيها، ومنها: "الدُّبَّاءُ"، وهو الوِعاءُ المُتَّخَذُ من نَباتِ اليَقْطينِ اليابِسِ، "والحَنتَمُ"، وهو الجَرَّةُ أو الجِرارُ الخُضْرُ أو الحُمْرُ، وهو ما طُلِي مِن الفخَّارِ، "والمُزفَّتُ" وهو الوِعاءُ المَطْلِيُّ بالزِّفْتِ، وهو نَوعٌ من القارِ، وكان النَّهيُ لتِلك الأوعيةِ لِمَا لها من أثَرٍ في تَخْميرِ ما يُوضَعُ فيها من طَعامٍ أو شَرابٍ؛ فرُبَّما شَرِبَ النَّقيعَ على ظَنِّ أنَّه غيرُ مُسكِرٍ، "وأمرتُكُم بظُروفٍ" وأبحتُ لكم أنْواعًا غَيرَ التي نَهَيتُ عنها، "وإنَّ الوِعاءَ لا يُحِلُّ شَيئًا ولا يُحرِّمُه؛ فاجْتَنِبوا كُلَّ مُسكِرٍ"، فالقاعِدةُ في حِلِّ الأوْعِيةِ وحُرْمتِها هو أثَرُها فيما يُوضَعُ فيها؛ لأنَّها تُسرِعُ في تَخْميرِهِ وإسْكارِهِ وتَغْييبِهِ للعَقلِ، وهذا كِنايةٌ عن إباحتِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم لاستِعمالِ ما كان يَنهى عنه من تِلكَ الأواني؛ فإذا ما تحوَّلَ ما بها إلى خَمْرٍ نُهِيَ عن أكْلِهِ أو شُربِهِ.
وفي الحَديثِ: إثْباتُ النَّسخِ في السُّنَّةِ.
وفيه: الحثُّ على زيارةِ القُبورِ.
وفيه: النَّهيُ عن كُلِّ مُسكِرٍ مُغيِّبٍ لِلعَقْلِ( ).