مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه521
مسند احمد
حدثنا محمد بن مصعب، حدثنا الأوزاعي، عن الزهري، عن أبي سلمة، والضحاك المشرقي، (1) عن أبي سعيد الخدري قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم يقسم مالا، إذ أتاه ذو الخويصرة - رجل من بني تميم - فقال: يا محمد اعدل، فوالله ما عدلت منذ اليوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم والله: " لا تجدون بعدي أعدل عليكم مني " ثلاث مرات، فقال عمر: يا رسول الله، أتأذن لي فأضرب عنقه؟ فقال: " لا، إن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر صاحبه إلى فوقه فلا يرى شيئا، آيتهم رجل إحدى يديه كالبضعة، أو كثدي المرأة، يخرجون على فرقة (1) من الناس، يقتلهم أولى الطائفتين بالله " قال أبو سعيد: " فأشهد أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأني شهدت عليا حين قتلهم، فالتمس في القتلى، فوجد على النعت الذي نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم " (2)
توعَّد رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالعذابِ الشَّديدِ لِمن كذَبَ عليه متعَمِّدًا، وخوَّف من ذلك أشَدَّ تخويفٍ؛ لأنَّ الكَذِبَ عليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليس كالكَذِبِ على أحَدٍ.
وفي هذا الحَديثِ يُبَيِّن عَليُّ بنُ أبي طالبٍ رضِيَ اللهُ عنه لِأصحابِه أنَّه إذا حَدَّثَ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حديثًا واحدًا، فَلَأنْ يَخِرَّ -أي: يَسقُطُ مِن السَّماءِ إلى الأرضِ- أحَبُّ إلَيه مِن أن يَكذِبَ عليه، ثُمَّ يَقولُ: «وإذا حَدَّثْتُكم فيما بَيْني وبَيْنَكم فَإنَّ الحَربَ خِدْعة» أي: أنَّها تَخدَعُ أهْلَها، فلِلمَرْءِ أنْ يَفعَلَ في مَقامِ الحَربِ ما لا يُؤْذَنُ في فِعْلِه في غَيرِها مِنَ المَواطِنِ، ومِن ذلك: الخِداعُ -وهو التَّوريةُ والكَذِبُ- إنِ اضطُرَّ إليه.
ومعنى كلامِه رَضِيَ اللهُ عنه: أنَّ الإنسانَ قد يوَرِّيَ في أمورٍ تحتاجُ الحَربُ فيها إلى توريةٍ، إلَّا أنَّ هذا لا يسري على الإخبارِ بحديثِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فمِثلُه يكونُ فيه الصِّدقُ من جميعِ جوانِبِه، ولا يحتَمِلُ حتى التوريةَ به.
ثُمَّ روى أنَّه سَمِعَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: يَأْتي في آخِرِ الزَّمانِ قَومٌ «حُدَثاءُ الأَسْنانِ»، أي: صِغارٌ في السِّنِّ والعُمُرِ، «سُفَهاءُ الأَحْلامِ»، أي: ضُعَفاءُ العُقولِ، «يَقولونَ مِن خَيرِ قَولِ البَريَّةِ»، أي: النَّاسِ، ومن خيرِ الكلامِ الذي يقرؤونه، وهو القُرآنُ، ولكِنْ لا يُجاوِزُ إيمانُهم حَناجِرَهم، وهو مُنتَهى الحُلقومِ، أي أنَّ الإيمانَ لم يَرسَخْ في قلوبِهم؛ لأنَّ ما وقف عند الحُلقومِ فلم يتجاوَزْه، لم يَصِلْ إلى القَلبِ. «يَمرُقونَ مِن الدِّينِ كَما يَمرُقُ السَّهمُ مِن الرَّمِيَّةِ»، أي: يَخْرُجونَ مِن مِلَّةِ الإسلامِ سَريعًا، ولا يَتعَلَّقونَ مِنْه بشَيءٍ، مِثْلَ السَّهْمِ القويِّ السَّريعِ الَّذي يَنْفُذُ في الصَّيدِ، ومِن قُوَّتِه وسُرْعتِه لا يكونُ فيه أثَرٌ مِن دَمٍ أو لَحْمٍ، وهذا نَعْتُ الخَوارِج الَّذين لا يَدينون للأئمَّةِ ويَخرُجون عليهم. «فَأَيْنَما لَقيتُموهم فاقْتُلوهم؛ فَإنَّ في قَتْلِهم أجْرًا لِمَن قَتَلَهم يَومَ القيامةِ»؛ لِسَعيِهم في الأَرضِ بالفَسادِ.
وفي روايةٍ أُخرى في الصَّحيحينِ أوضَحَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن سَبَبِ أمْرِه بقَتْلِهم، وهو أنهم «يَقْتُلون أهلَ الإِسلامِ، ويَدَعُون أهلَ الأَوْثانِ!»، وهذا مِن عجائبِ الأفعالِ؛ أنَّهم يَدَّعونَ الإسلامَ ويَقتُلونَ أهْلَه، ويَدَّعونَ مُخالفةَ أهلِ الكُفرِ ولا يُقاتِلونَهم، ثمَّ قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لَئِن أنا أدرَكْتُهم لَأقتُلنَّهم قَتْلَ عادٍ»، أي: لَأستَأصِلنَّهم بحيثُ لا أُبقِي منهم أحدًا كما استُؤصِلَت عادٌ، وعادٌ همْ قَومُ نَبيِّ اللهِ هُودٍ عليه السَّلامُ، والذي جاء ذِكرُهم في قَولِ اللهِ تعالَى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ} [فصلت: 15، 16]، وقال عنهم: {وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 72].
وفي الحَديثِ: صِفاتُ الخَوارِجِ.
وَفيه: أنَّ قِراءةَ القُرآنِ مع اخْتِلالِ العَقيدةِ غَيرُ زاكيةٍ ولا حاميةٍ صاحِبَها مِن سَخَطِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ.
وفيه: عَلامةٌ مِن عَلاماتِ نُبوَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.