مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه567
مسند احمد
حدثنا عفان، حدثنا همام، حدثنا قتادة، عن أبي الصديق، عن أبي سعيد الخدري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن رجلا قتل تسعة وتسعين نفسا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل، فأتاه، فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسا، فهل له من توبة؟ قال: لقد قتل تسعة وتسعين نفسا فليست له توبة؟ قال: فانتضى سيفه فقتله فكمل مائة، ثم إنه مكث ما شاء الله، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل، فقال: إنه قد قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ فقال: ومن يحول بينه وبين التوبة، اخرج من القرية الخبيثة التي أنت بها، إلى قرية كذا وكذا، فاعبد ربك عز وجل فيها، قال: فخرج وعرض له أجله، فاختصم فيه ملائكة العذاب وملائكة الرحمة، قال إبليس: إنه لم يعصني ساعة قط، قالت ملائكة الرحمة: إنه خرج تائبا " فزعم حميد أن بكرا حدثه، عن أبي رافع قال: " فبعث الله ملكا فاختصما إليه " - رجع الحديث إلى حديث قتادة قال: - " انظروا إلى أي القريتين كان أقرب، فألحقوه بها " قال قتادة " فقرب الله منه القرية الصالحة، وباعد عنه (1) القرية الخبيثة، فألحقوه بأهلها " (2)
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ رجُلًا مِن بَني إسرائيلَ كان قدْ قتَلَ تِسعًا وتِسعينَ إنسانًا بغَيرِ حقٍّ، فأراد التَّوبةَ، فجاء إلى راهبٍ، أي: عابدٍ مِن النَّصارى -وفي ذلك إشعارٌ بأنَّ ذلك وَقَعَ بعْدَ رفْعِ عِيسى عليه السَّلامُ؛ فإنَّ الرَّهبانيَّةَ إنَّما ابتَدَعها أتباعُه- فسَأَلَه عن التَّوبةِ، فقال له: لَيس لك توبةٌ، وقد وَقَعَ هذا الرَّاهبُ في خَطأَينِ: الأوَّلُ: أنَّه ضيَّقَ رَحمةَ اللهِ، والثَّاني: أنَّه أفْتى بغَيرِ عِلمٍ. فقتَلَه الرَّجلُ وأكمَلَ بقَتْلِه المئةَ نفْسٍ.
فلمْ يَيَئسْ، بلْ جَعَلَ يَسأَلُ مرَّةً أُخرى، إلى أنْ جاء إلى عالِمٍ مِن العُلماءِ، فسَأَلَه عن التَّوبةِ، فقال له العالِمُ: لا يَمنَعُك مِن التَّوبةِ شَيءٌ، وأمَرَه أنْ يَذهَبَ إلى قَريةٍ مُعيَّنةٍ، يُعبَدُ فيها اللهُ عزَّ وجلَّ، وكانت قَريتُه قَريةَ سَوْءٍ، فمات الرَّجُلُ في طَريقِه، ومِن رَحمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ به أنَّه عِندما حَضَرَته الوفاةُ ناءَ بصَدْرِه، أي: مالَ بصَدْرِه مُقترِبًا مِن القَريةِ الصَّالحةِ التي تَوجَّهَ إليها للتَّوبةِ، ومُبتعِدًا عن قَريةِ السَّوءِ التي خَرَجَ منها.
فلمَّا مات تَخاصَمَتْ فيه -أي: تَنازَعَتْ- مَلائكةُ الرَّحمةِ ومَلائكةُ العذابِ، وزاد في رِوايةِ مُسلمٍ: أنَّ مَلائكةَ العَذابِ قالت: إنَّه لم يَفعَلْ خَيرًا قطُّ، ومَلائكةَ الرَّحمةِ قالت: إنَّه أَقبَل على اللهِ تائبًا، فحَكَّموا بيْنهما واحدًا، وهو مَلَكٌ أرْسَلَه اللهُ عزَّ وجلَّ إليهم في صُورةِ آدمِيٍّ، فقال لهم: قِيسُوا بيْن الأَرْضَينِ؛ القَريةِ الَّتي خَرَج منها، والقريةِ الَّتي كان ذاهبًا إليها؛ فإنْ كان أقرَبَ للَّتي خرَج منها أخَذَتْه مَلائكةُ العذابِ، وإنْ كان أقرَبَ للقريةِ الَّتي كان ذاهبًا إليها أخَذَتْه مَلائكةُ الرَّحمةِ. فأَوحَى اللهُ إلى أرضِ القَريةِ الَّتي كان ذاهبًا إليها: أنْ تَقرَّبي، فتَقارَبَتْ، وأَوحَى إلى الأُخرى: أنْ تَباعَدي، فتباعَدَتْ، وهذا مِن سَعةِ رَحمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ بعِبادِه، فوَجَدوه أقرَبَ إلى القريةِ الَّتي كان ذاهبًا إليها بشِبرٍ واحدٍ فقطْ، فأخَذَتْه مَلائكةُ الرَّحمةِ، ولا يُعارَضُ هذا بما هو مُقرَّرٌ مِن أنَّ حُقوقَ العبادِ لا تَسقُطُ إلَّا باستيفائِها؛ فاللهُ تعالَى إذا رَضيَ عن المذنِبِ وقَبِل تَوبتَه، يُرْضِي عنه خَصْمَه.
وفي الحديثِ: حثُّ المُذْنبينَ على التَّوبةِ، ومَنْعُهم مِن اليَأسِ مِن رَحمةِ اللهِ تعالَى.
وفيه: بَيانُ فضْلِ العالِمِ على العابِدِ.
وفيه: أنَّ مِن أعظمِ أسبابِ المعصيةِ الصُّحبةَ السَّيِّئةَ وخُلطةَ أهلِ السُّوءِ، وأنَّ مِن أعظمِ أسبابِ الطاعةِ صُحبةَ المُطِيعينَ وخُلْطتَهم.
وفيه: سَعةُ فَضلِ اللهِ تعالَى وعَظيمُ رَحمتِه بالتَّائبِ.