مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه79
حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وهم في غفلة} [مريم: 39] قال: " في الدنيا " (1)
في هذا الحديثِ يُبيِّنُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعضَ أحوالِ يَومِ القِيامةِ؛ فيقولُ: "يُجمَعُ الناسُ يَومَ القِيامةِ في صَعيدٍ واحدٍ"، أي: في مَكانٍ واحدٍ، والصَّعيدُ: الأرضُ الواسعةُ المُستويةُ، "ثمَّ يطَّلِعُ عليهم ربُّ العالَمين"، أي: يَنظُرُ إليهم -وهو سُبحانَه أعرَفُ بأحْوالِهم- "
، أي: تَقف وتَسيرُ خلْفَ ما كانت تَعبُدُه في الدُّنيا، "
"، أي: يَظهَرُ الصَّليبُ لِيَراهُ أتْباعُه مِن النَّصارى، "ولِصاحِبِ الصُّورِ صُوَرُه"، وفي روايةِ التِّرمذيِّ من حديثِ ابنِ مسعودٍ رضِيَ اللهُ عنه: "ولصاحِبِ التَّصاويرِ تَصاويرُه"، والمقصودُ بالصُّوَرِ والتَّصاويرِ كُلُّ مَعبودٍ كانَ على هَيئَةٍ مُصوَّرةٍ مِثلُ الأصنامِ وغيرِها، "ولِصاحِبِ النارِ نارُهُ". قيل: يَحتمِلُ أنْ يكونَ التَّمثيلُ تَلْبيسًا عليهم، ويَحتمِلُ أنْ يكونَ التَّمثيلُ لِمَن لا يَستحِقُّ التَّعذيبَ، وأمَّا مَن سِواهم فيَحْضُرون حَقيقةً؛ لِقَولِه تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]، قال: "فيَتَّبِعون ما كانوا يَعْبُدون"، أي: يَنقسِمُ الناسُ أقسامًا بحَسَبِ عَقائدِهم خلْفَ مَعبوداتِهم التي كانتْ لهم في الدُّنيا، "ويَبْقى المُسلِمون" لا يَتَّبِعون أحدًا مِن تلك المَعبوداتِ الباطلةِ، وهم يَنتَظِرون ربَّهم اللهَ الحقَّ الذي يَعرِفُونه بعَلاماتٍ وأماراتٍ علَّمها لنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، كما عِندَ الشَّيخينِ: "وتَبْقى هذه الأُمَّةُ فيها مُنافِقوها، فيَأتِيهم اللهُ في صُورةٍ غَيرِ صُورتِه التي يَعرِفون"، قال: "فيَطَّلِعُ عليهم ربُّ العالَمينَ، فيقولُ: ألَا تتَّبِعون الناسَ؟" أي: تَذْهَبون معهم خلْفَ واحدٍ مِن هذه المَعبوداتِ؟ "فيَقولونَ: نَعوذُ باللهِ منك، نَعوذُ باللهِ منك"، أي: نَلْتَجِئُ بالدُّعاءِ إلى اللهِ أنْ يَحْمِيَنا مِن هذا القولِ، ثمَّ يقولونَ: "اللهُ ربُّنا، وهذا مَكانُنا" لا نَتْرُكُه ولا نَبْرَحُه "حتى نَرى ربَّنا، وهو يأْمُرُهم ويُثبِّتُهم، ثمَّ يَتوارَى"، أي: يَستَتِرُ حيث لا يَرَوْنَه، "ثمَّ يطَّلِعُ، فيَقولُ: ألَا تتَّبِعون الناسَ؟ فيقولونَ: نَعوذُ باللهِ منك، نَعوذُ باللهِ منك، اللهُ ربُّنا، وهذا مَكانُنا حتى نَرَى ربَّنا، وهو يأْمُرُهم ويُثَبِّتُهم"، قِيل: إنَّما اسْتَعاذوا منه أوَّلًا؛ لأنَّهم اعْتَقَدوا أنَّ ذلك الكلامَ اسْتِدراجٌ؛ لأنَّ اللهَ لا يَأمُرُ بالفَحشاءِ، ومِن الفَحْشاءِ اتِّباعُ الباطلِ وأهْلِه، ولهذا وقَعَ في الصَّحيحِ: "فيَأْتِيهم اللهُ في صُورتِه التي يَعرِفون". "قالوا: وهل نَراهُ يا رسولَ اللهِ؟" أي: هلْ يَكشِفُ ربُّنا عزَّ وجلَّ عن وَجْهِهِ لنا، فَنراهُ رأيَ العَينِ؟ "قال: وهل تُضارُّون في رُؤيةِ القَمَرِ ليلةَ البدْرِ؟" بمعنى: هلْ يَشُقُّ على أحدٍ رُؤيةُ القَمَرِ عِندَ تَمامِه وصَفائِه؟ "قالوا: لا، قال: فإنَّكم لا تُضارُّون في رُؤيتِه تلك السَّاعةَ"، أي: إنَّكم سَترَونَ ربَّكم دُونَ أنْ يُصيبَكم ضَررٌ، ودُونَ مُغالَبةٍ، أو مُدافَعةٍ، أو مُزاحَمةٍ في رُؤيتِه، بلْ سَترَونه بسُهولةٍ، وتَتمتَّعون بالنَّظرِ إلى جَمالِه وجَلالِه، وهذا مِن ضَرْبِ الأمثالِ، وتَشبيهِ الرُّؤيةِ بالرُّؤيةِ مِن حيثُ جَلاؤُها وظُهورُها، وليس تَشْبيهًا لِلمَرْئيِّ بالمَرْئيِّ؛ فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ ليس كمِثلِه شَيءٌ، "ثمَّ يَتوارى، ثمَّ يَطَّلِعُ فيُعرِّفُهم نفْسَه" بالصِّفةِ والعَلامةِ التي يَعرِفونَه بها، ويَتأكَّدون أنَّه الإلهُ الحقُّ سُبحانه وتَعالَى، "فيَقولُ: أنا ربُّكم، أنا ربُّكم، اتَّبِعوني، فيقومُ المُسلِمون" ويَتَّبِعون اللهَ الحقَّ في هذا الموقفِ، "ويُوضَعُ الصِّراطُ"، أي: ويُمَدُّ الصِّراطُ، وهو جِسرٌ على متْنِ جَهنَّمَ يكونُ أحَدَّ مِن السَّيفِ، وأدَقَّ مِن الشَّعَرةِ، يَجتازُه المُسلِمون، "فهمْ عليه مِثلُ جِيادِ الخَيلِ والرِّكابِ"، أي: كسُرعةِ الخَيلِ والإبِلِ في جَرْيِها في السَّيرِ على الصِّراطِ، "وقولُهم عليه: سَلِّمْ سَلِّمْ" فيَدْعونَ اللهَ أنْ يُسلِّمَهم مِن النَّارِ حتى يَنْجُوا، "ويَبْقى أهلُ النارِ، فيُطرَحُ منهم فيها فَوجٌ"، أي: فيَقَعُ جَماعةٌ منهم في النَّارِ، "فيُقال" لِجَهنَّمَ: "هل امْتَلأْتِ؟ وتَقولُ: هلْ مِن مَزيدٍ؟" كما قال تعالَى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق: 30]، حيثُ جعَلَ اللهُ فيها بقُدْرتِه إدراكًا حتَّى تكلَّمَتْ، "ثمَّ يُطرَحُ فيها فَوجٌ، فيُقال: هل امْتَلأْتِ؟ وتَقولُ: هلْ مِن مَزيدٍ؟" فهي لا تَمتلِئُ؛ بلْ تُنادي بمَزيدٍ مِن الدَّاخلينَ فيها، "حتَّى إذا أُوعِبوا فيها"، أي: دَخَلوا جَميعُهم النَّارَ، "وَضَعَ الرَّحمنُ عزَّ وجلَّ قَدَمَه فيها، وزُوِي بَعضُها إلى بَعضٍ"، أي: يَجْتَمِعُ ويَلْتَقِي بَعضُها ببَعضٍ على مَن فيها، "ثمَّ قالت: قَطْ قَطْ" فهُنا تَمتلِئُ وتقول: كَفَى كَفَى.
قال: "فإذا صُيِّرَ أهْلُ الجنَّةِ في الجنَّةِ"، أي: دَخَلوا فيها وأُسْكِنوا في أماكِنِهم، "وأهلُ النارِ في النَّارِ" وكذلك اسْتقَرَّ أهْلُ النارِ في عَذابِهم، "أُتِيَ بالمَوتِ مُلبَّبًا" كالذَّبيحةِ المَرْبوطِ قَوائمُها إلى مَوضِعِ نَحْرِها تُجَرُّ وتُسحَبُ منها إلى مَكانِ الذَّبحِ، وفي رِوايةِ البُخاريِّ عن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رضِيَ اللهُ عنه: "يُؤْتَى بِالمَوتِ كَهَيئةِ كبْشٍ أَمْلَحَ"، وعلى كلِّ حالٍ فالموتُ مَخلوقٌ مِن مَخلوقاتِ ربِّ العِزَّة، فيُؤتَى به مَشْدودًا مِن رَقَبتِه، "فيُوقَفُ على السُّورِ الذي بيْن أهْلِ النارِ وأهْلِ الجنَّةِ، ثمَّ يُقال: يا أهْلَ الجنَّةِ، فيَطَّلِعون خائفينَ"، أي: يُجِيبون المُناديَ وفي ظَنِّهم أنَّهم سيَخْرُجون منها ومِن نَعيمِها، "ثمَّ يُقال: يا أهلَ النارِ، فيَطَّلِعون مُسْتبشِرين"، أي: يُجِيبون المُناديَ وفي ظَنِّهم أنَّهم سيَخْرُجونَ منها ومِن عَذابِها، "يَرْجُون الشَّفاعةَ"، أي: لعلَّ الشَّفاعةَ تُدرِكُهم فيُنقَذون مِن النارِ، "فيُقال لِأهْلِ الجنَّةِ ولِأهْلِ النَّارِ: تَعرِفون هذا؟ فيَقولون هؤلاءِ وهؤلاءِ: قدْ عَرَفْناه؛ هو الموتُ الذي وُكِّلَ بنا، فيُضْجَعُ"، أي: يُمالُ على جَنْبِه، "فيُذبَحُ ذَبْحًا على السُّورِ، ثمَّ يُقال: يا أهْلَ الجنَّةِ خُلودٌ لا مَوتَ"، أي: حالُكم هذه مُستمِرَّةٌ، فأنتم خالِدون في الجنَّةِ، وهذه بُشْرى لِأهْلِ الجنَّةِ، "ويا أهْلَ النَّارِ خُلودٌ لا مَوتَ" أي: حالُكم هذه مُستمِرَّةٌ، فأنتم خالِدون في النَّارِ، وهذا حَسرةٌ لِأهْلِ النارِ، وهذا فيمَن حقَّت عليه كَلِمةُ اللهِ أنَّه يُخلَّدُ في النَّارِ؛ وإلَّا فإنَّ هناك مَن يَدخُلُ النارَ وقدْ قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ؛ تَمْحيصًا لِذُنوبِه، ثمَّ يُخرَجُ منها، فيُدخَلُ الجنَّةَ ويُخلَّدُ فيها، كما جاء في الرِّواياتِ.
وقال قُتيبةُ بنُ سَعيدٍ -أحدُ رُواةِ الحديثِ- في حَديثِه: وأُزْوِيَ بعضُها إلى بَعضٍ، ثمَّ قال: قطْ" كأنَّه سَأَلَها: هل اكْتَفَيتِ؟ "قالت: قَطْ، قَطْ"، وهذا بدَل لفظةِ "وزُوِي بَعضُها إلى بَعضٍ، ثمَّ قالت: قَطْ قَطْ"، وهو مِن ضبْطِ الرِّوايةِ.
وفي الحديثِ: إثباتُ رُؤيةِ اللهِ عزَّ وجلَّ يَومَ القِيامةِ .