مسند أبي هريرة رضي الله عنه 40

مسند احمد

مسند أبي هريرة رضي الله عنه 40

حدثنا محمد بن فضيل، عن عمارة، عن أبي زرعة، قال: ولا أعلمه إلا عن أبي هريرة، قال: جلس جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى السماء، فإذا ملك ينزل، فقال جبريل: إن هذا الملك ما نزل منذ يوم خلق، قبل الساعة، فلما نزل قال: يا [ص:77] محمد، أرسلني إليك ربك،: أفملكا نبيا يجعلك، أو عبدا رسولا؟ قال جبريل: تواضع لربك يا محمد. قال: «بل عبدا رسولا»

كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ذا خُلُقٍ حَسَنٍ، وأدَبٍ جَمٍّ مع كُلِّ الخَلْقِ، وكان أكثَرَ تَخشُّعًا وخُضوعًا وتَواضُعًا لرَبِّه سُبحانَه وتَعالى
ويُضرَبُ هذا الحَديثُ مثالًا في تَواضُعِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مع ربِّ العِزَّةِ، حيث قال أبو هُرَيرَةَ رضِيَ اللهُ عنه: "جلَسَ جِبريلُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ"، أي: نزَلَ الأمينُ جِبريلُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وجالَسَه بأمْرِ اللهِ "فنظَرَ إلى السَّماءِ"، أي: النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ "فإذا مَلَكٌ يَنزِلُ"، أي: رَأى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَلَكًا من الملائكةِ يَنزِلُ من السَّماءِ، وهذا ممَّا أطلَعَه اللهُ عليه وخَصَّه به، "فقال له جِبريلُ: هذا المَلَكُ ما نزَلَ منذ خُلِقَ قَبلَ هذه السَّاعَةِ"، أي: ما نزَلَ من السَّماءِ إلى الأرضِ منذ خَلَقَه اللهُ عزَّ وجلَّ إلَّا الآنَ؛ فجاءَ هذا المَلَكُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقال: "يا مُحمَّدُ، أرسَلَني إليكَ رَبُّك"، أي: إنَّ هذا المَلَكَ مُنزَّلٌ من قِبَلِ رَبِّه سُبحانَه وتَعالى؛ لتَخييرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والحِكمَةُ من أنْ يَنزِلَ مَلَكٌ آخَرُ غَيرُ جِبريلَ؛ لكي يكونَ جِبريلُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وَزيرًا وناصحًا ومُشيرًا، قال المَلَكُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "أمَلِكًا جَعَلكَ، أم عَبدًا رسولًا؟"، أي: أتُريدُ أنْ تُصبِحَ مَلِكًا رسولًا أم تبقى عبدًا رسولًا، فقال جِبريلُ عليه السَّلامُ ناصِحًا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "تواضَعْ لرَبِّكَ"، أي: أنَّ جِبريلَ نَصَحَه بالثانيةِ، وكأنَّه قال له: ربُّنا يُخيِّرُك، فإذا تَواضَعتَ فإنَّه ما زادَ اللهُ عبدًا بتواضُعٍ إلَّا عِزًّا، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "لا، بل عبدًا رسولًا"، أي: أكونُ عبدًا رسولًا؛ فكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ غايَةً في التَّواضُعِ ليُرِيَ النَّاسَ أنَّ الدُّنيا لا تُساوي شيئًا؛ ولذلك كان يَجلِسُ جِلسَةَ التَّواضُعِ، ويَقعُدُ على الأرضِ، ولا يَقعُدُ على عَرشٍ، وينامُ على السَّريرِ، وكانت حِبالُ السَّريرِ تُؤثِّرُ في جَنْبِ النَّبيِّ صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عليه