مسند أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه493
مسند احمد
حدثنا حسن (3) ، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك، أنه قال: لما نزلت هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم} [الحجرات: 2] إلى آخر الآية، جلس ثابت بن قيس في بيته، فقال: أنا من أهل النار، واحتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم، سعد بن معاذ فقال: " يا أبا عمرو، ما شأن ثابت أشتكى؟ " فقال سعد: إنه لجاري وما علمت له شكوى، قال: فأتاه سعد، فذكر له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ثابت: أنزلت هذه الآية، ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنا من أهل النار، فذكر ذلك سعد للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بل هو من أهل الجنة " (1)
أبو بَكرٍ وعُمرُ رضِيَ اللهُ عنه عَنهُما هُما خَيْرُ هَذهِ الأُمَّةِ بعْدَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، إلَّا أنَّهُما قدْ يَحدُثُ منهما ما يَحدُثُ مِنَ البَشرِ، ويُصوِّبُ اللهُ لَهما؛ لِيَقتديَ بِهِما غَيرُهُما.
وفي هذا الحَديثِ «كادَ الخَيِّرانِ» أي: اللَّذانِ يَفْعلانِ الخَيرَ الكثيرَ «أنْ يَهلِكا: أبو بَكرٍ وعُمرُ رَضي اللهُ عنهما»؛ وذَلكَ أنَّهُما رَفَعا أصْواتَهُما عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حِينَ قَدِمَ عليه رَكْبُ بَني تَميمٍ -وهي قَبيلةٌ مِن أكبرِ قَبائلِ العَرَبِ، وقد سكَنَت قديمًا منطقة نَجْدٍ-، والرَّكبُ: هُمْ أصحابُ الإبلِ في السَّفرِ، وكان ذلك سنَةَ تِسعٍ مِن الهجرةِ، وسألوا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يؤَمِّرَ عليهم أحدًا، فأشارَ أحدُهُما -وهو عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه- على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يجعَلَ الأقرَعَ بنَ حابِسٍ رَضِيَ اللهُ عنه أخي بَني مُجاشعٍ أميرًا عليهم. وأشارَ الآخَرُ -وهو أبو بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه- على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم برَجلٍ آخَرَ يؤمِّره عليهم. وأخبر نافعُ بنُ عمَرُ -أحدُ رواةِ الحَديثِ- أنه لا يَحفظُ اسمَ الرَّجلِ الآخَرِ الذي أشارَ به أحدُهما. وهو القَعقاعَ بنَ مَعبدِ بنِ زُرارَةَ رَضِيَ اللهُ عنه، كما في روايةٍ أُخرى للبُخاريِّ.
فحدث بسَبَبِ ذلك الخلافِ رَفعُ الصَّوتِ عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَقالَ أبو بَكرٍ لعُمرَ: ما قَصدْتَ إلَّا مُخالفَتي فيما قُلْتَ! فَردَّ عُمرُ وَقال: ما أردتُ خِلافَك. فتجادلا حتى ارتفعت أصواتُهما في ذَلكَ الخِلافِ، فأنزلَ اللهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2].
قال ابنُ أبي مُليكةَ: قالَ ابنُ الزُّبيرِ: «فَما كانَ عُمرُ يُسمِعُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعْدَ هذه الآيَةِ حتَّى يَستفْهِمَه» يَعني: كانَ بعْدَ هذه الحادثةِ يخفِضُ صَوتَه عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، حتَّى إنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يكادُ يَسمَعُه ويَطلُبُ منه أنْ يَرفعَ صَوتَه لِيَسمَعَ. «وَلم يَذكُرْ» عبدُ اللهِ بنُ الزُّبَيرِ «ذلكَ عَن أبيهِ»، يَعني أبا بَكرٍ، فهوَ جَدُّه لأُمِّه أسماءَ، والأبُ يُطلَقُ على الجَدِّ.
وسياقُ هذا الحَديثِ صُورتُه صُورةُ الإرسالِ مِن ابنِ أبي مُلَيكةَ؛ لأنَّه لم يحضُرْ زَمَنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، لكِنْ ظهر في آخِرِه أنَّه يرويه عن عبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيرِ رَضِيَ اللهُ عنهما.
وفي الحَديثِ: النَّهيُ عن السَّبْقِ والتَّقدُّمِ بالقولِ والرَّأيِ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وضَرورةُ انتظارِ أمْرِه وحُكمِه في كلِّ الأُمورِ، ويَنطبِقُ هذا على سُنَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعْدَ مَماتِه.