مسند أبي هريرة رضي الله عنه 565

مسند احمد

مسند أبي هريرة رضي الله عنه 565

 حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مالك، عن ابن شهاب، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا توضأ أحدكم، فليستنثر، وإذا استجمر، فليوتر»

علَّمَنا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كَثيرًا مِن الآدابِ والسُّننِ التي تَحفَظُ على الإنسانِ جِسمَه وصِحَّتَه ومَظهَرَه الطَّيِّبَ
وفي هذا الحَديثِ يُوَضِّحُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عِدَّةَ آدابٍ
الأدبُ الأوَّلُ: "مَن اكتحَلَ" أيْ: أرادَ وَضْعَ الكُحلِ في عَينَيه، "فلْيوتِرْ" وذلك بأنْ يَجعَلَ عَددَ المَرَّاتِ رَقْمًا فَرديًّا؛ إمَّا واحدةً، أو ثَلاثًا، أو خَمسًا، وهكذا، "مَن فعَلَ" أيْ: أتى به على الصِّفةِ الوِتْريَّة؛ "فقد أحسَنَ" أيْ: فعَلَ فِعلًا حَسنًا ويُثابُ عليه؛ لأنَّه سُنَّةُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولأنَّه تَخلَّقَ بأخلاقِ اللهِ تَعالى، فإنَّ اللهَ وِترٌ يُحِبُّ الوِترَ، "ومَن لا فلا حَرَجَ" يعني: فمَن لم يَفعَلِ الإيتارَ فلا إثمَ عليه
الأدبُ الثَّاني: "ومَن استجمَرَ" والاستِجمارُ: هو التَّمسُّحُ والتَّنظُّفُ بالجِمارِ، وهي الأحجارُ الصِّغارُ، وذلك بعدَ قَضاءِ الحاجةِ، وسُمِّيَ استِجمارًا؛ لأنَّه يُطيِّبُ المَحَلَّ كما تُطيِّبُه الاستِجمارُ بالبَخورِ، وذلك لِمَن لم يَستعمِلِ الماءَ في الاستِنجاءِ، "فلْيوتِرْ" بأنْ يَجعَلَ الحِجارةَ التي يَستنجي بها وترا؛ فإنْ لم تكفِ الثَّلاثُ مَسَحاتٍ، زاد خامسةً أو سابعةً، وهكذا، حتى يُنظَّفَ المَوضِعُ، "مَن فعَلَ فقد أحسَنَ، ومَن لا فلا حَرَجَ"، أيْ: مَن تَنظَّفَ بالحِجارةِ وِترًا حتى أنقى المَوضِعَ فقد أحسَنَ الفِعلَ، ومَن زاد على الوِترِ فجعَلَه شَفعًا فلا حَرَجَ عليه
الأدبُ الثَّالثُ: "ومَن أكَلَ فما تَخلَّلَ" والتَّخلُّلُ هو تَنظيفُ الأسنانَ بالخِلالِ بعدَ الأكلِ، "فليَلفِظْ" أيْ: فليَرمِ ما أخرَجَه مِن بيْنِ أسنانِه، "وما لاكَ بلِسانِه فليَبتلِعْ" بمَعنى أنَّ ما أخرَجَه بلِسانِه مِن بيْنِ أسنانِه فله أنْ يَبلَعَه، وخاصَّةً إذا كان بيْنَ النَّاسِ لأنَّه مُستَقذَرٌ إخراجُه، أو لأنَّ رَميَ اللُّقمةِ بعدَ لَوكِها إسرافٌ وبَشاعةٌ للحاضِرينَ. وقيلَ: إنَّما أمَرَ في التَّخلُّلِ برَميِ ما يَخرُجُ من بيْنِ الأسنانِ؛ لأنَّها تُنتِنُ بيْنَ الأسنانِ، فتَصيرُ مُستَقذَرةً، "مَن فعَلَ فقد أحسَنَ، ومَن لا فلا حَرَجَ" والمَقصودُ أنَّ مَن التزَمَ بهذا الأدبِ، فرَمى ما أخرَجَه مِن بيْنِ أسنانِه بالأعْوادِ والخِلالِ، وابتلَعَ ما أخَذَه وأخرَجَه بلِسانِه؛ فله الأجرُ والثَّوابُ، ومَن لم يَفعَلْ ذلك فلا إثمَ عليه إنْ رماها كلَّها، وذلك مع مُراعاةِ الأدبِ وخاصَّةً إذا كان بيْنَ النَّاسِ
الأدبُ الرَّابعُ: "ومَن أتى الغائطَ" وهو المَكانُ الذي تُقضى فيه حاجةُ الإنسانِ مِن البُرازِ "فليَستتِرْ" بمَعنى يَتوارى ويَستُرُ نفْسَه عن الأعيُنِ، "فإنْ لم يَجِدْ إلَّا أنْ يَجمَعَ كَثيبًا مِن رَملٍ" أيْ: كُومةً مِن الرَّملِ المُستطيلِ بحيثُ يَكفي لسَتْرِ مَقعدتِه وهو يَقضي حاجتَه، "فليَستدبِرْه" أيْ: فليَستدبِرِ الكَثيبَ، بأنْ يَجعَلَه خلْفَه لئلَّا يراه أحدٌ؛ "فإنَّ الشَّيطانَ يَلعَبُ بمَقاعِدِ بَني آدمَ" والمَقاعِدُ جَمعُ مَقعَدةٍ، وتُطلَقُ على أسفلِ البَدنِ وعلى مَوضِعِ القُعودِ لقَضاءِ الحاجةِ، والمُرادُ: أنَّ الشَّياطينَ تَحضُرُ تلك الأمكِنةِ وتَرصُدُها بالأذى والفَسادِ، ولَعِبُ الشَّيطانِ بمَقاعِدِ بَني آدمَ كِنايةٌ عن إيصالِه الأذى والفَسادَ إليهم، وقيلَ: أيْ: يَتمكَّنُ مِن وَسوَسةِ الغَيرِ إلى النَّظرِ إلى مَقعدَتِه إذا كانتْ مَكشوفةً؛ لأنَّ الغائطَ مَوضِعٌ يُخلَى منها ذِكرُ اللهِ تَعالى، وتُكشَفُ فيها العَوْراتُ، وهذا أمْرٌ بالتَّستُّرِ ما أمكَنَ، وألَّا يكونَ قُعودُه في بَراحٍ مِن الأرضِ تَقَعُ عليه أبصارُ النَّاظرينَ، أو تَهُبُّ الرِّيحُ عليه، فيُصيبُه نَشرُ البَولِ، فيُلوِّثُ بَدنَه أو ثِيابَه، وكلُّ ذلك مِن لَعِبِ الشَّيطانِ به، ثم زَكَّى النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ من فعل هذا بقولِه: "مَن فعَلَ فقد أحسَنَ" يَعني: مَن فعَلَ الاستِدبارَ بالكَثيبِ ونحوِه فقدْ أحسَنَ فيه لنفْسِه، وأحسَنَ بإساءَتِه إلى الشَّيطانِ ودَفعِ وَسوَستِه، "ومَن لا فلا حَرَجَ" أيْ: فلا إثمَ عليه إنْ لم يَتَّخِذْ سُترةً ولم يَرَه أحدٌ، وذلك إذا كان في حالةٍ لا يَقدِرُ فيها على التَّستُّرِ، ولكنْ عليه مُحاوَلةُ التُّستُّرِ ما أمكَنَه؛ فإنَّ الإستتارَ واجبٌ، أمَّا مزيدُ العِنايةِ والاحتياطِ فمُستحَبٌّ
وفي الحَديثِ: حَثٌّ على الإيتارِ في كلِّ ما يُمكِنُ فيه ذلك
وفيه: التَّحذيرُ مِن تَلعُّبِ الشَّيطانِ