حدثنا معاذ، حدثنا حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: قالت المهاجرون: يا رسول الله، ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن بذلا من كثير، ولا أحسن مواساة في قليل، قد كفونا المئونة، وأشركونا في المهنأ، فقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كلا ما أثنيتم عليهم به، (1) ودعوتم الله لهم " (2)
حَثَّتِ الشَّريعةُ المُسلمينَ على المواساةِ بَينَهم وإحسانِ بَعضِهم لبَعضٍ، فمَن كان عِندَه خَيرٌ من مالٍ ونَحوِه فلْيَجُدْ على إخوانِه ويُكرِمْهم فيَنالَ بذلك الأجرَ العَظيمَ، وعَلى مَن أُحسِنَ إليهم أن يَدعوا لمَن أحسَنوا إليهم ويُثنوا عليهم حَتَّى يَنالوا أيضًا الأجرَ، وقد ضَرَبَ الأنصارُ رَضيَ اللهُ عنهم أروعَ الأمثِلةِ في البَذلِ والعَطاءِ والإيثارِ؛ فإنَّه عِندَما قدِمَ المُهاجِرونَ مِن مَكَّةَ إلى المَدينةِ ولَم يَكُنْ مَعَهم شَيءٌ بَذل لَهمُ الأنصارُ مِن أموالهمُ الشَّيءَ الكَثيرَ حَتَّى تخَوَّف المُهاجِرونَ أن يَذهَبَ الأنصارُ بالأجرِ كُلِّه؛ ففي الحَديثِ أنَّ المُهاجِرينَ قالوا: يا رَسولَ اللهِ، ما رَأينا مِثلَ قَومٍ، يَقصِدونَ الأنصارَ، قَدِمنا عليهم، أحسَنَ بَذلًا مِن كَثيرٍ، أي: مِن مالٍ كَثيرٍ، ولا أحسَنَ مواساةً في قَليلٍ، أي: مِن مالٍ قَليلٍ. والمَعنى: أنَّهم أحسَنوا إلينا سَواءٌ كانوا كَثيري المالِ أو فقيري الحالِ.
وقد كَفَونا المَؤونةَ. مِنَ الكِفايةِ أي: تَحمَّلوا عنَّا مَؤونةَ الخِدمةِ في عِمارةِ الدُّورِ والنَّخيلِ وغَيرِهما، وأشرَكونا، أي: مِثلَ الإخوانِ، في المَهنَأِ، أي: ما يَقومُ بالكِفايةِ وإصلاحِ المَعيشةِ، وقيلَ: كُلُّ أمرٍ يَأتي للإنسانِ مِن غَيرِ تَعَبٍ فهو هَنيءٌ، والمَعنى: أشرَكونا في ثِمارِ نَخيلِهم وكَفَونا مَؤونةَ سَقيِها وإصلاحِها، وأعطَونا نِصفَ ثِمارِهم.
فقد خَشِينا، أي: خِفْنا يا رَسولَ اللهِ بفِعلِهم هذا أن يَذهَبَ الأنصارُ بالأجرِ كُلِّه، أي: بأجرِ عَمَلِهم وعَمَلِنا؛ لأنَّهم واسَونا بأموالِهم وليس لَنا أجرٌ في ذلك؛ فإنَّهم أصحابُ الفضلِ، وقيلَ: بأن يُعطيَهمُ اللهُ أجرَ هِجرَتنا مِن مَكَّةَ إلى المَدينةِ، وأجرَ عِبادَتِنا كُلِّها مِن كَثرةِ إحسانِهم إلينا.
فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: كَلَّا، أي: لَن يَذهَبوا بالأجرِ كامِلًا؛ فإنَّ فضلَ اللهِ واسِعٌ، ما أثنَيتُم عليهم ودَعَوتُمُ اللَّهَ لَهم، أي: ما دُمتُم تَدعونَ لَهم بخَيرٍ فإنَّ دُعاءَكُم يَقومُ بحَسَناتِهم إليكُم، وثَوابُ حَسَناتِكُم راجِعٌ عليكُم. والمَعنى: أنَّكُم إذا أثنَيتُم عليهم شُكرًا لصَنيعِهم ودُمتُم عليه فقد جازَيتُموهم.
وفي الحَديثِ فَضلُ الأنصارِ رَضيَ اللهُ عنهم.
وفيه أنَّه يُشرَعُ لمَن صُنِعَ إليه مَعروفٌ أن يَدعوَ ويَثنيَ على مَن أحسَنَ إليه.