مسند أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه172
مسند احمد
حدثنا إسماعيل، أخبرنا أيوب، عن محمد، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر: " من كان ذبح قبل الصلاة فليعد "، فقام رجل فقال: يا رسول الله، هذا يوم يشتهى فيه اللحم. وذكر هنة من جيرانه، فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقه، قال: وعندي جذعة هي أحب إلي من شاتي لحم. قال: فرخص له، فلا أدري بلغت رخصته من سواه أم لا؟ قال: ثم انكفأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كبشين فذبحهما، وقام الناس إلى غنيمة فتوزعوها أو قال: فتجزعوها، هكذا قال: أيوب (1)
لقدْ بيَّنَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لأُمَّتِه ما يَصلُحُ للأُضحيَّةِ، وبيَّنَ شُروطَها، وطريقةَ ذَبحِها؛ تَعليمًا لهم، وتَفْقيهًا.
وفي هذا الحَديثِ يقولُ أَنَسُ بنُ مالكٍ رضِيَ اللهُ عنه: "قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يومَ النَّحرِ"، وهو يومُ عيدِ الأضحى في العاشرِ من ذي الحِجَّةِ، وهو اليومُ الَّذي يُنحَرُ فيه الهَدْيُ والأضاحيُّ؛ تقرُّبًا إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ، مع ما فيه مِن التَّهليلِ والتَّكبيرِ والتَّسبيحِ والذِّكرِ للهِ عَزَّ وجَلَّ، "مَن كان ذبَحَ قبْلَ الصلاةِ فلْيُعِدْ"، والمَعنى: أنَّه لا أُضحيَّةَ له، وإنَّما هو لَحمٌ قدَّمَه لأهلِه وأحبابِه، وليس أُضحيَّةً، "فقامَ رجُلٌ" -وفي رِوايةٍ للبُخاريِّ أنه أبو بُرْدةَ بنُ نِيارٍ، خالُ البَرَاءِ بنِ عازِبٍ- "فقال: يا رسولَ اللهِ، هذا يومٌ يُشتَهى فيه اللحمُ"؛ فهو يومُ فَرَحٍ وأكلٍ يُحبُّ النَّاسُ فيه اللَّحمَ، وقد ذبَحَ قَبْلَ الصَّلاةِ، وأطعَمَ أهلَه، "وذكَرَ هَنَةً مِن جيرانِه"، يَعني: أنَّهم فُقراءُ مُحتاجونَ إلى اللَّحمِ، كأنَّه يُريدُ به عُذرَه في تَقديمِ الذَّبحِ على الصلاةِ، "كأنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ صدَّقَه"، أي: صَدَّقَ ذلك الرجُلَ فيما ذكَرَه مِن حاجةِ جيرانِه، وقَبِلَ عُذرَه، ولكنْ لم يَجعَلْ ما فعَلَه كافيًا؛ ولذلك أمَرَه بالإعادةِ، فقال الرجُلُ لَمَّا عَلِمَ أنَّ ذَبحَه غيرُ مُجزئٍ: "وعِندي جَذَعةٌ هي أحَبُّ إليَّ مِن شاتَيْ لَحمٍ"، وفي حديث البراء: فقال: يا رسول الله، إنَّ عندي داجنًا جَذَعة من المعز.
وقد نقل ابن عبد البر إجماع العلماء على عدم إجزاء الجذع من المعز في الأضحية، والجَذَعةُ من المعز هي ما كانت دونَ السَّنةِ، ولكنَّها أفضَلُ عندَه مِن شاتَيْنِ؛ لكَثرةِ لَحمِها، وغَلاءِ ثَمنِها "فرَخَّصَ له"، أذِنَ له النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُضحِّيَ بها. ثُم قال أَنَسٌ رضِيَ اللهُ عنه: "فلا أدري، أبلَغَتْ رُخصَتُه مَن سِواه أو لا؟" والمَقصودُ أنَّ أنَسًا رضِيَ اللهُ عنه لا يَدْري هل كان هذا الحُكمُ خاصًّا بأبي بُردةَ، أو هو عامٌّ لجَميعِ المُكلَّفينَ، وقد صرَّحَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في حَديثِ البَرَاءِ في الصَّحيحَيْنِ بأنَّها لا تَبلُغُ غيرَه، ولا تُجْزئُ أحدًا بعْدَه. "قال: ثُمَّ انكَفَأَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ"، أي: مالَ وانْحَنى "إلى كَبشَينِ فذَبَحَهما، فقام الناسُ إلى غُنَيْمةٍ" تَصغيرُ الغَنَمِ "فتَوَزَّعوها، أو قال: فتَجَزَّعوها" يَعني: قَسَّموها حِصَصًا، وتَوَزَّعوها قِطَعًا.
وفي الحَديثِ: بيانُ حُكمِ ذَبحِ الأُضحيَّةِ، وأنَّه يكونُ بعْدَ صَلاةِ العيدِ.
وفيه: بيانُ ما كان عليه سلَفُ هذه الأُمَّةِ مِن مواساتِهم لجِيرانِهم ممَّا رَزَقَهم اللهُ، وتَركِ الاستِئثارِ عليهم.