مسند أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه270
حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن أنس قال: " لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركب وأبو بكر رديفه، وكان أبو بكر يعرف في الطريق لاختلافه إلى الشام، وكان يمر بالقوم فيقولون: من هذا بين يديك يا أبا بكر؟ فيقول: هاد يهديني. فلما دنوا من المدينة بعثا (1) إلى القوم الذين أسلموا من الأنصار إلى أبي أمامة وأصحابه، فخرجوا إليهما فقالوا: ادخلا آمنين مطاعين، فدخلا " قال أنس: " فما رأيت يوما قط أنور ولا أحسن من يوم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر المدينة، وشهدت وفاته، فما رأيت يوما قط أظلم، ولا أقبح من اليوم الذي توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه (2) "
لمَّا هاجَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن مَكَّةَ إلى المَدينةِ اتَّخَذَ أبا بَكرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللهُ عنه رَفيقًا له في الهِجرةِ، وكان أهلُ المَدينةِ يَعرِفونَ أبا بَكرٍ ولا يَعرِفونَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّ أبا بَكرٍ كان يُسافِرُ للتِّجارةِ.
وفي هذا الحَديثِيَصِفُ أنَسٌ رَضِيَ اللهُ عنه كَيف كانت المَدينةُ عِندَما قدِمَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وكَيف أصبَحَت عِندَما توُفِّيَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فيَقولُ: لمَّا هاجَرَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أي: مِن مَكَّةَ إلى المَدينةِ، كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَركَبُ، أي: راكِبًا للدَّابَّةِ، وأبو بَكرٍ رَديفُه، أي: خَلفَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكان أبو بَكرٍ يُعرَفُ في الطَّريقِ، أي: كان النَّاسُ يَعرِفونَ أبا بَكرٍ أثناءَ الطَّريقِ لاختِلافِه إلى الشَّامِ، أي: لأنَّه كان يُسافِرُ إلى الشَّامِ للتِّجارةِ، وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يُعرَفُ؛ لأنَّه كان بعيدَ العَهدِ بالسَّفرِ مِن مَكَّةَ، فكان النَّاسُ أثناءَ سَفَرِ رَسولِ اللهِ إلى المَدينةِ وأبي بَكرٍ، يَقولونَ: مَن هذا بَينَ يَدَيك يا أبا بَكرٍ؟ أي: من الشَّخصُ الذي أمامَك، والمَعنى: أنَّهم عَرَفوا أبا بَكرٍ ولم يَعرِفوا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فلذلك سَألوا أبا بَكرٍ عَمَّن مَعَه، فيَقولُ أبو بَكرٍ: هادٍ يَهديني، أي: يُرشِدُني ويَدُلُّني على طَريقِ الخَيرِ، هذا هو مَقصودُ أبي بَكرٍ، وفَهِم النَّاسُ مِن قَولِه أنَّه الذي يَدُلُّه على طَريقِ السَّفرِ. فلمَّا دَنَوَا مِنَ المَدينةِ، أي: اقتَرَبَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبو بَكرٍ مِنَ المَدينةِ، بَعَثا إلى القَومِ الذينَ أسلموا مِنَ الأنصارِ؛ إلى أبي أُمامةَ وأصحابِه، أي: أرسَلا إلى الأنصارِ مِمَّن أسلَم أنَّهم قد قَرُبا مِنَ المَدينةِ، فخَرَجوا إليهما، أي: خَرَجَ الأنصارُ يَستَقبلونَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبا بَكرٍ، فلمَّا جاءَ الأنصارُ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبي بَكرٍ قالوا لهما: ادخُلا آمِنَينِ مُطاعَينِ، أي: ادخُلا المَدينةَ في أمانٍ عِندَنا ولكُما الطَّاعةُ، فدَخلُ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبو بَكرٍ المَدينةَ. قال أنَسٌ: فما رَأيتُ يَومًا قَطُّ أنوَرَ ولا أحسَنَ مِن يَومٍ دَخَل رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبو بَكرٍ المَدينةَ، أي: أنَّ وقتَ دُخولِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى المَدينةِ كان مِن أحسَنِ الأيَّامِ عِندَنا، وأضاءَ فيها كُلُّ شَيءٍ، وهذا كِنايةٌ عن فرَحِ أهلِها وسُرورِهم بقُدومِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وشَهِدتُ وفاتَه، أي: كُنتُ حاضِرًا وقتَ مَوتِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فما رَأيتُ يَومًا قَطُّ أظلَمَ ولا أقبَحَ مِنَ اليَومِ الذي توُفِّيَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيه، أي: كان وقتُ مَوتِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن أشَدِّ الأيَّامِ عليهم وأظلَمِها، مِثلُ البَيتِ يَصيرُ مُظلِمًا إذا بَعُدَ عنه السِّراجُ أو انطَفأ، وهذا كِنايةٌ عن شِدَّةِ حُزنِ أهلِها وتَأسُّفِهم بوَفاتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وفي الحَديثِ مَنقَبةٌ لأبي بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه.
وفيه ما كان عليه أبو بَكرٍ مِنَ الأدَبِ مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وفيه مَشروعيَّةُ التَّوريةِ عِندَ الحاجةِ.
وفيه فرَحُ واستِبشارُ الأنصارِ بقُدومِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى المَدينةِ.
وفيه بَيانُ الحُزنِ الشَّديدِ الذي أصابَ أهلَ المَدينةِ بمَوتِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.