مسند أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه330
مسند احمد
حدثنا محمد بن أبي عدي، عن حميد، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " انتهيت إلى السدرة، فإذا نبقها مثل الجرار، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، فلما غشيها من أمر الله ما غشيها، تحولت ياقوتا، أو زمردا أو نحو ذلك " (1)
رِحلةُ الإسْراءِ والمِعْراجِ منَ المُعجِزاتِ الكُبْرى الَّتي تَجلَّى فيها فَضْلُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وظهَر عُلوُّ مَقامِه عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ، وأَراهُ فيها مِن آياتِه الكُبْرى.
وفي هذا الحَديثِ أنَّ نَبيَّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حدَّثَهم عن لَيلةِ أُسْريَ به، والإسْراءُ هو السَّفرُ لَيلًا، والمَعنى: حدَّثَهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن مُعجِزةِ سَفرِه في لَيلةٍ واحِدةٍ مِن المَسجِدِ الحَرامِ إلى المَسجِدِ الأقْصى، ثُمَّ العُروجِ به إلى السَّماءِ ثم إلى سِدْرةِ المُنْتَهى.
فأخبَرَهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه بيْنَما كان في الحَطيمِ -ورُبَّما قال: في الحِجرِ- مُضطَجِعًا، أي: مُستَلقيًا على جَنْبِه، والحَطيمُ والحِجرُ بمَعنًى واحدٍ، وهو: الحائطُ المُستَديرُ إلى جانِبِ الكَعبةِ، وهو جُزءٌ مِن الكَعْبةِ لم يُستَكمَلْ بِناؤُه، وقد أرادَتْ قُرَيشٌ تَجْديدَ الكَعْبةِ قبْلَ بَعْثةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقَصَّرَت بها النَّفَقةُ عن إكْمالِ هذا الجُزءِ، فترَكَتْه ووَضَعَت عليه عَلاماتٍ تُميِّزُه، أتاهُ آتٍ مِن ربِّه، قيلَ: هو جِبريلُ عليه السَّلامُ، فشَقَّ ما بيْن ثُغْرَةِ نَحْرِهِ -وهو المَوضِعُ الواصِلُ بيْنَ أسفَلِ العُنقِ وأعْلى الصَّدرِ- إلى شِعْرَتِه، وهو مَنْبَتُ شَعرِ العانةِ، وفي رِوايةٍ: «مِن قَصِّهِ إلى شِعْرَتِه»، والقَصُّ: رَأسُ الصَّدرِ. وذكَر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ هذا الملَكَ أخرَجَ القَلْبَ مِن جَوفِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ووضَعَه في طَسْتٍ مِن ذهَبٍ مَمْلُوءةٍ إيمانًا، فغَسَله بالإيمانِ، وفي اتِّخاذِ الإناءِ مِن الذَّهبِ معَ حُرْمةِ ذلك؛ قيلَ: لعلَّ ذلك قبلَ التَّحْريمِ، أو إنَّ التَّحريمَ مَخْصوصٌ بأحْوالِ الدُّنْيا، وما وقَعَ في تلك اللَّيلةِ يَلحَقُ بأحْكامِ الآخِرةِ؛ لأنَّ الغالِبَ على أحْوالِ الآخِرةِ الغَيبُ، وكلُّ ما حدَث في هذه الرِّحْلةِ هو منَ الغَيْبيَّاتِ. قيل: وخُصَّ الذَّهبُ لكونِه أعْلى الأواني الحسِّيَّةِ وأصْفاها، ولأنَّ للذَّهبِ خَواصَّ لَيستْ لغيرِه؛ وهي أنَّه لا تَأكُلُه النَّارُ، ولا يُبْلِيه التُّرابُ، ولا يَلحَقُه الصَّدى، وهو أثقَلُ الجواهرِ، فناسَبَ ثِقَلَ الوحْيِ.
ثمَّ حَشا الملَكُ قَلبَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بذلك الإيمانِ، وذلك كان حَقيقةً، أو المرادُ أنَّ الطَّسْتَ كان فيه شَيءٌ تَحصُلُ به زيادةٌ في كَمالِ الإيمانِ، وكَمالِ الحِكْمةِ، وفي رِوايةٍ أُخْرى في الصَّحيحَينِ: «ثمَّ غسَلَه بماءِ زَمزَمَ، ثمَّ جاء بطَسْتٍ مِن ذهَبٍ مُمتَلئٍ حِكْمةً وإيمانًا، فأفرَغَه في صَدْري». ثمَّ وَضَعَ الملَكُ القلْبَ بعْد ذلك في صَدرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
ثُمَّ ذكَر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه بعْد ذلك أُتيَ له بالدَّابَّةِ الَّتي سيَركَبُها في رِحْلةِ الإسْراءِ إلى المَسجِدِ الأقْصى، وهي البُراقُ، وهي دابَّةٌ أقلُّ في حَجمِها مِن البَغْلِ، وأكبْرُ مِن الحِمارِ، «يضَعُ خَطْوَه عندَ أقْصى طَرْفِه»، أي: إنَّ خُطْوتَه الواحِدةَ بمِقْدارِ ما يَنتَهي إليه بَصَرُه، وفي ذلك إشارةٌ إلى شدَّةِ سُرعتِه. فركِبَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وانطلَقَ جِبريلُ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حتَّى أتَى السَّماءَ الدُّنْيا، وهي السَّماءُ الأُولى، وعندَ مُسلِمٍ مِن حَديثِ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قبْلَ مِعْراجِه إلى السَّماءِ كان قد أُسْريَ به إلى بَيتِ المَقدِسِ، فصلَّى به رَكعَتَينِ، ثمَّ عُرِجَ به إلى السَّماءِ الأُولى، فطَلَبَ جِبريلُ عليه السَّلامُ مِن الملائكةِ المُوَكَّلةِ ببابِ السَّماءِ أنْ تَفتَحَهُ، فسَألَتْ مَلائكةُ السَّماءِ: مَن هذا؟ أي: مَنِ المُستَفتِحُ؟ قال جِبريلُ عليه السَّلامُ: «جِبريلُ»، وهذا بَيانٌ لأدَبِ الاستِئْذانِ بيْنَ المَلائكةِ، قيلَ: ومَن معَكَ؟ قال: مُحمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قيلَ: «وقدْ أُرسِلَ إليه؟»، أي: هلْ أرسَلَ اللهُ بأمْرِ عُروجِه إلى السَّماءِ؟ وليس المَقصودُ السُّؤالَ عنِ الإرْسالِ إلى النَّبيِّ بالرِّسالةِ والنُّبوَّةِ، قيلَ: الحِكْمةُ في قَولِهم هذا: أنَّ اللهَ أرادَ إطْلاعَ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على أنَّه مَعْروفٌ عِندَ المَلأِ الأعْلى؛ لأنَّهم قالوا: أُرسِلَ إليه، فدلَّ على أنَّهم كانوا يَعرِفونَ أنَّ ذلك سيَقَعُ، وإلَّا لكانوا يَقولونَ: مَن مُحمَّدٌ؟ قال جِبريلُ عليه السَّلامُ: نَعمْ، فقالتْ مَلائكةُ السَّماءِ مُرَحِّبينَ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «مَرحَبًا به، فنِعمَ المَجيءُ جَاءَ»، أي: إنَّ مَجيئَه مُبارَكٌ مَحمودٌ، ففُتِحَ له بابُ السَّماءِ الأُولى، وأخبَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه بعْدَ ما وصَل، وانْتَهى مِن دُخولِها وجَد فيها أبا البشَرِ آدَمَ عليه السَّلامُ، فقال جِبريلُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هذا أبوكَ آدَمُ، فسَلِّم عليه، فسلَّمَ عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وردَّ آدَمُ السَّلامَ، ثمَّ قال للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «مَرحَبًا بالابنِ الصَّالحِ والنَّبيِّ الصَّالحِ». وذكَره بالبُنوَّةِ؛ لافْتِخارِه بأُبوَّتِه للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ووصَفَه بالصَّالحِ؛ لأنَّ الصَّالحَ صِفةٌ تَشمَلُ خِلالَ الخَيرِ جَميعَها؛ ولذلك ذكَره كلٌّ مِن الأنْبياءِ الَّذين لَقِيَهم في السَّمَواتِ بهذا الوصْفِ واقْتَصَروا عليه، والصَّالحُ هو الَّذي يَقومُ بما يَلزَمُه مِن حُقوقِ اللهِ وحُقوقِ العِبادِ، فمِن ثَمَّ كانت كَلمةً جامعةً لِمَعاني الخيرِ.
ثمَّ صعِدَ جِبريلُ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى السَّماءِ الثَّانيةِ، فدَخَلَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ووَجَد فيها نَبيَّ اللهِ يَحْيى بنَ زَكَريَّا، ونَبيَّ اللهِ عيسى ابنَ مَريمَ عليهما السَّلامُ، وقولُه: «وهما ابْنا الخالةِ»؛ وذلك أنَّ أُمَّ يَحْيى أُختُ أُمِّ مَريمَ. ثمَّ صعِدَ جِبريلُ عليه السَّلامُ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى السَّماءِ الثَّالثةِ، فلمَّا دَخَلَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وجَدَ يوسُفَ بنَ يَعْقوبَ عليهما السَّلامُ، ثمَّ صَعِدَ جِبريلُ عليه السَّلامُ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى السَّماءَ الرَّابعةَ، فلمَّا دَخَلَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وجَدَ فيها إدْريسَ عليه السَّلامُ، ثمَّ صعِدَ جِبريلُ عليه السَّلامُ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى السَّماءِ الخامِسةَ، فلمَّا دَخَلَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وَجَدَ بها هارونَ عليه السَّلامُ، ثمَّ صعِدَ جِبريلُ عليه السَّلامُ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى السَّماءِ السَّادسةِ، فلمَّا دَخَلَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وجَدَ فيها مُوسى عليه السَّلامُ. وفي كلِّ سَماءٍ حدَثَ مِثلُ ما حدَثَ في السَّماءِ الأُولى؛ مِن طَلَبِ فتْحِ البابِ، وسُؤالِ الملائكةِ، والتَّرحيبِ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإلْقاءِ السَّلامِ مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على مَن يَلقاهُ مِن الرُّسلِ، لكنْ كان رَدُّهم عليه: «مَرحَبًا بالأخِ الصَّالحِ والنَّبيِّ الصَّالحِ»، وليس «مَرحَبًا بالابنِ...»، كما قال آدَمُ عليه السَّلامُ.
ولَمَّا تَجاوَزَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ نَبيَّ اللهِ مُوسى عليه السَّلامُ -أي: تَخطَّاه- بكَى موسى عليه السَّلامُ، فقيلَ له: «ما يُبْكيكَ؟» قال مُوسى عليه السَّلامُ: «أبْكي لأنَّ غُلامًا بُعِثَ بَعْدي»، يَقصِدُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، «يَدخُلُ الجنَّةَ مِن أُمَّتِه أكثَرُ ممَّن يَدخُلُها مِن أُمَّتي»، وبُكاءُ مُوسى عليه السَّلامُ ليس حسَدًا، وإنَّما كان يَبْكي على ما فاتَه مِن الأجْرِ؛ وذلك أنَّ لكُلِّ نَبيٍّ دَرَجتَه على عدَدِ مَن معَه مِن الأتْباعِ، وممَّا يدُلُّ أيضًا على أنَّه ليس حسَدًا: نُصحُ نَبيِّ اللهِ مُوسى عليه السَّلامُ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنْ يَسأَلَ ربَّهُ تَخْفيفَ الصَّلاةِ على أُمَّتِه، كما سيَأْتي؛ فهذا أَدْعى أنْ يَنفيَ عنه عليه السَّلامُ أنَّه بَكى حسَدًا لبُلوغِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ دَرَجةً أعْلى منه بما له مِن أتْباعٍ.
ثمَّ صعِدَ جِبريلُ عليه السَّلامُ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى السَّماءِ السَّابعةِ، فطَلَبَ جِبريلُ فتْحَ البابِ ففُتِحَ، ورحَّبَتِ الملائكةِ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فلمَّا دخَلَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وَجَد فيها إبْراهيمَ عليه السَّلامُ، قال جِبريلُ: «هذا أبوكَ فسلِّمْ عليه»؛ وذلك أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن نَسلِ إبْراهيمَ عليه السَّلامُ، فسلَّمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عليه، فرَدَّ إبْراهيمُ على النَّبيِّ السَّلامَ، قال: «مَرحَبًا بالابنِ الصَّالحِ والنَّبيِّ الصَّالحِ»، وفي رِوايةٍ أُخْرى في صَحيحِ مُسلِمٍ: أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وجَد خَليلَ الرَّحمنِ إبْراهيمَ مُسنِدًا ظَهرَه إلى البَيتِ المَعْمورِ.
وقيلَ في الحِكْمةِ مِن الاقْتِصارِ على هؤلاء الأنْبياءِ المَذْكورينَ فيه دونَ غَيرِهم؛ للإشارةِ إلى ما سَيقَعُ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مع قَومِه مِن نَظيرِ ما وقَع لكلٍّ منهم؛ فأمَّا آدَمُ فوَقَعَ التَّنبيهُ بما وَقَعَ له مِن الخُروجِ مِن الجنَّةِ إلى الأرضِ، بما سيَقَعُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن الهِجرةِ إلى المدينةِ، والجامعُ بيْنهما ما حَصَلَ لكلٍّ منهما مِن المشقَّةِ، وكَراهةِ فِراقِ ما ألِفَه مِن الوَطَنِ، ثمَّ كان مآلُ كلٍّ منهما أنْ يَرجِعَ إلى مَوطنِه الذي أُخرِجَ منه، وبعِيسى ويَحْيى على ما وقَعَ له مِن أوَّلِ الهِجْرةِ مِن عَداوةِ اليَهودِ، وتَمادِيهم في البَغيِ عليه، وإرادتِهِم وُصولَ السُّوءِ إليه، وبيوسُفَ على ما وقَعَ له مع إخْوتِه؛ فكذلك النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما وقَعَ له مِن قُرَيشٍ في نَصبِهمُ الحَربَ له وإرادتِهِم هَلاكَه، وكانت العاقبةُ له، وبإدْريسَ على رَفيعِ مَنزِلتِه عندَ اللهِ، فكذلك النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وبهارونَ على أنَّ قَومَه رجَعوا إلى مَحبَّتِه بعْدَ أنْ آذَوْه، فكذلك النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأكثَرُ قَومِه رجَعوا إليه بعْدَ العَداوةِ، وبمُوسى على ما وقَع له مِن مُعالَجةِ قَومِه، فكذلك النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عالَجَ قُرَيشًا وغَيرَهم أشدَّ المُعالَجةِ، وبإبْراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في اسْتِنادِه إلى البَيتِ المَعْمورِ بما ختَم اللهُ له في آخِرِ عُمرِه مِن إقامةِ مَناسِكِ الحجِّ وتَعظيمِ البيتِ، فكذلك النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أقامَ مناسِكَ الحجِّ، وعظَّمَ البَيتَ، وأمَر بتَعْظيمِه.
ثمَّ رُفِعَت للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سِدْرةُ المُنْتَهى وظهَرَت له، وقيلَ: إنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قدِ ارْتُقيَ به فظهَرَت له، وهي: شَجَرةٌ عَظيمةٌ جدًّا، وسُمِّيَت بذلك لأنَّه يَنْتَهي إليها ما يَصعَدُ مِن الأرْضِ، ويَنزِلُ إليها ما يَنزِلُ مِن اللهِ؛ مِن الوحْيِ وغيرِه، أو لانتهاءِ عِلمِ الخلْقِ إليها مِن الملائكةِ والإنسِ، أي: لكونِها فوقَ السَّمواتِ والأرضِ، فهي المُنْتهى في عُلوِّها، ولم يُجاوِزْها أحَدٌ إلَّا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
ويَصِفُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سِدْرةَ المُنْتَهى، فيُخبِرُ أنَّ نَبِقَها -أي: ثِمارَها- مِثلُ قِلالِ هَجَرَ، وهَجَرُ: قَرْيةٌ مِن قُرى المَدينةِ، وقيل: هي ما يُعرَفُ بمدينة الأحساءِ حاليًّا، ووقَعَ التَّشْبيهُ بحَجْمِ قِلالِها؛ لأنَّها كانت مَعْروفةً عندَ المُخاطَبينَ، والقِلالُ: أَوْعِيةٌ مِن الفَخَّارِ كَبيرةُ الحَجمِ، كانتْ تُملأُ بالماءِ، والمُرادُ أنَّ ثِمارَ الشَّجرةِ كانت كَبيرةً. وأخبَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ وَرَقَ شَجرةِ سِدْرةِ المُنْتَهى حَجْمُها مِثلُ آذانِ الفِيَلةِ، والفِيَلةُ: جَمعُ فيلٍ، وهو بَيانٌ لكِبَرِ حَجمِها. وقال جِبريلُ عليه السَّلامُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «هذه سِدْرةُ المُنْتَهى».
ثمَّ أخبَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه رأَى أرْبَعةَ أنْهارٍ، وفي رِوايةٍ أُخْرى في الصَّحيحَينِ: أنَّ هذه الأنْهارَ تَخرُجُ مِن أصْلِ شَجرةِ سِدْرةِ المُنْتَهى، «نَهْرانِ باطِنانِ»، أي: لخَفاءِ أمْرِهما، فلا تَهتَدي العُقولُ إلى وَصفِهما، أو أنَّهما خافِيانِ عنِ الأعْيُنِ؛ فلا يُرى إلى أين مَصَبُّهما، «ونَهْرانِ ظاهِرانِ»، فسَأَلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جِبريلَ عليه السَّلامُ عنهم، فقال جِبريلُ: «أمَّا الباطِنانِ: فنَهْرانِ في الجنَّةِ»، قيلَ: هما السَّلْسَبيلُ والكَوْثَرُ، وقيلَ في اسْمَيْهما غيرُ ذلك. «وأمَّا الظَّاهِرانِ: فالنِّيلُ والفُراتُ»، ونَهرُ النِّيلِ: يَنبُعُ ويَسيلُ مِن رافِدَيْنِ: النِّيلِ الأبيَضِ، وهو أقْصى رَوافِدِه، يَأْتي مِن جَنوبِ القارَّةِ الإفْريقيَّةِ عندَ هَضْبةِ البُحَيراتِ (بُحَيرةِ فِكْتورْيا)، والنِّيلِ الأزرَقِ، وَيَنبُعُ من هَضْبةِ الحَبَشةِ (بُحَيرةِ تانا بأَثْيوبْيا)، يَأْتيانِ مِن الجَنوبِ مُرورًا على طولِ البِلادِ إلى أنْ يَجتَمِعا بأرضِ السُّودانِ، ثمَّ أرضِ مِصرَ، فيَفيضَا في البَحرِ الأبيَضِ المُتوسِّطِ، ويَبلُغُ طولُه: 6 .853 كم، ونَهرُ الفُراتِ: يَنبُعُ مِن تُرْكيا، ويَسيرُ في أراضيها، ويُتابِعُ طَريقَه في الأراضي السُّوريَّةِ، ومِن ثَمَّ في الأراضي العِراقيَّةِ، ويَنتَهي به المَطافُ إلى الخَليجِ العَربيِّ بعْدَ أنْ يتَّحِدَ معَ نَهرِ دِجْلةَ، ويَبلُغُ طولُه: 2 .781 كم؛ فهذانِ النَّهرانِ -النِّيلُ والفُراتُ- يَخرُجانِ مِن أصلِ سِدْرةِ المُنْتَهى، ثمَّ يَسيرانِ حيث أرادَ اللهُ تعالَى، ثمَّ يَخرُجانِ مِن الأرضِ، ويَسيرانِ فيها.
وذكَر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه بعدَ ذلك ظهَرَ له البَيْتُ المَعْمورُ، قيلَ: هو بَيتٌ في السَّماءِ السَّابعةِ كحالِ الكَعْبةِ في الأرضِ، وقيلَ: إنَّه فَوقَها، ومُقابِلٌ لها، وفي رِوايةٍ أُخْرى في الصَّحيحَينِ: يُصلِّي فيه كُلَّ يَومٍ سَبعونَ ألفَ ملَكٍ، إذا خرَجوا لم يَعودوا إليه.
وذكَر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه قُدِّمَ له ثَلاثةُ آنيةٍ ضِيافةً له، إناءٌ فيه خَمرٌ، وإناءٌ فيه لَبنٌ، وإناءٌ فيه عَسَلٌ، فشرِبَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن إناءِ اللَّبنِ، فقال جِبريلُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «هي الفِطْرةُ أنتَ عليها وأُمَّتُكَ»، والفِطْرةُ: أصْلُ الخِلْقةِ الَّتي يكونُ عليها كُلُّ مَوْلودٍ؛ إذ يكونُ اللَّبنُ أوَّلَ ما يَدخُلُ جَوْفَه، وقيلَ: فِطْرةُ الإسْلامِ، وفي رِوايةٍ أُخْرى في الصَّحيحَينِ: قيلَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «لو شرِبْتَ الخَمرَ لَغَويْتَ، وغَوَتْ أُمَّتُكَ»؛ ولعلَّ ذلك لأنَّه لمَّا كان اللَّبنُ غِذاءَ الأجْسامِ، ومَصلَحةً لهم مُجرَّدةً عنِ المَضارِّ غالبًا في دُنْياهم؛ دلَّ أخْذُه له على تَوْفيقِه، وسَدادِ أمَّتِه لِما فيه مَصلَحتُهم في أحْوالِهم، وهِدايتُهم للحقِّ، ولمَّا كانتِ الخَمرُ تُذهِبُ العُقولَ، وتُثيرُ الفَحشاءَ والعَداوةَ والبَغْضاءَ، دلَّ على خِلافِ ذلك، وعلى كلِّ حالٍ، فإنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالَى لَطيفٌ بنَبيِّه وأُمَّتِه، وقدْ هَداه إلى سُبلِ الرَّشادِ، واخْتارَ أُمَّةَ الإسْلامِ لتَكونَ مَحلَّ رِسالتِه ونُبوَّتِه، فأبعَدَ اللهُ عنه الغَوايةَ، وهَداهُ إلى سَواءِ السَّبيلِ.
ثمَّ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «ثمَّ فُرِضَتْ علَيَّ الصَّلَواتُ خَمسينَ صَلاةً كلَّ يَوْمٍ»، أي: أمَرَه اللهُ عزَّ وجلَّ بعدَما بلَغ في صُعودِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في السَّمَواتِ ما بلَغ بالصَّلاةِ، وعَددُها خَمسونَ صَلاةً في اليَومِ الواحِدِ، ويُخبِرُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه بعدَما أخَذ عنِ اللهِ ما فرَضَه عليه وعلى أُمَّتِه مِن صَلاةٍ، رجَع، فمَرَّ على نَبيِّ اللهِ مُوسى عليه السَّلامُ، فقال مُوسى عليه السَّلامُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «بمَ أُمِرتَ؟» قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «أُمِرتُ بخَمسينَ صَلاةً كلَّ يَومٍ»، قال مُوسى عليه السَّلامُ: «أُمَّتُكَ لا تَستَطيعُ خَمسينَ صَلاةً كلَّ يَومٍ»، أي: لا تَقْوى عليها، ولنْ تَقدِرَ أنْ تَقومَ بها، «وإنِّي واللهِ قد جرَّبْتُ النَّاسَ قبْلَكَ»، يَقصِدُ قَومَه مِن بَني إسْرائيلَ، وما كان مِن دَعوتِه فيهم، «وعالَجْتُ بَني إسْرائيلَ أشَدَّ المُعالَجةِ»، أي: حاوَلَ بكُلِّ جَهْدٍ ومَشقَّةٍ أنْ يُغيِّرَ فيهم، ويَحمِلَهم على أنْ يؤَدُّوا ما فُرِضَ عليهم، «فارجِعْ إلى ربِّكَ، فاسأَلْه التَّخْفيفَ لأُمَّتِكَ»، أي: مِن عَددِ الصَّلَواتِ، وأخبَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه رجَع إلى ربِّه يَسأَلُه التَّخْفيفَ على أُمَّتِه، فنقَصَ اللهُ له مِنَ الخَمسينَ عَشْرَ صَلَواتٍ، فكانت أربَعينَ صَلاةً في كلِّ يَومٍ، وحدَثَ ذلك ثَلاثَ مرَّاتٍ أيضًا، في كلِّ مرَّةٍ يَنقُصُ اللهُ عزَّ وجلَّ عشْرًا، وفي المرَّةِ الخامسةِ والأخيرةِ نقَصَ اللهُ له مِن العَشْرِ خَمسَ صلَواتٍ، فبَقيَ له خَمسٌ كلَّ يَومٍ، فعاد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى نَبيِّ اللهِ موسى، فسَأَلَه مُوسى عليه السَّلامُ: «بِمَ أُمِرْتَ؟» فأخبَرَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه أُمِرَ بخَمسِ صَلَواتٍ كُلَّ يَومٍ، فقال له مُوسى كما قال قبْلَ ذلك، وطلَبَ منه أنْ يَرجِعَ فيَسألَ ربَّه التَّخْفيفَ، فقال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «سألْتُ ربِّي حتَّى اسْتَحيَيْتُ»، أي: أسْتَحي أنْ أطلُبَ مَزيدًا مِن التَّخْفيفِ بعْدَما خُفِّفَتْ مِن خَمسينَ إلى خَمسٍ؛ فإنِّي إذا رجَعْتُ كُنتُ غيرَ راضٍ ولا مُسلِّمٍ، «ولكنْ أَرْضى وأُسلِّمُ». ومُراجَعةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في بابِ الصَّلاةِ إنَّما جازَت مِن رَسولِنا محمَّدٍ ومُوسى عليهما السلام؛ لأنَّهما عَرَفا أنَّ الأمرَ الأوَّلَ غيرُ واجبٍ قَطعًا، فلو كان واجبًا قَطعًا لمَا قبِلَ التَّخْفيفَ، وقيلَ: في الأوَّلِ فرَضَ اللهُ خَمسينَ، ثمَّ رحِم عِبادَه ونسَخَها بخَمسٍ.
وأخبَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه بعدَما جاوَز نَبيَّ اللهِ موسى -أي: تخَّطاهُ- ورَضيَ بما فُرِضَ مِن الصَّلَواتِ الخَمسِ، «نادى مُنادٍ: أمضَيْتُ فَريضَتي»، أي: أنفَذْتُها، «وخَفَّفتُ عن عِبادي»، أي: في عَددِ الصَّلَواتِ، وزِيدَ في رِوايةٍ أُخْرى في صَحيحِ البُخاريِّ: «وأَجْزي الحَسَنةَ عَشْرًا»، أي: إنَّ كلَّ صَلاةٍ مِن الخَمسِ بعَشْرِ درَجاتٍ، فتَعدِلُ الصَّلواتُ الخَمسُ خَمسينَ صَلاةً في الأجْرِ، وقيلَ: إنَّ هذا الكَلامَ قد احتُجَّ به على أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قد كلَّمَ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ليلةَ الإسْراءِ. وهناك رِواياتٌ تَزيدُ على ذلك، وتُصرِّحُ بأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قد رُفِعَ إلى أعْلى مِن هذا المَقامِ؛ منها ما ورَد في الصَّحيحَينِ مِن قولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «حتَّى ظهَرْتُ لمُستَوًى أسمَعُ فيه صَريفَ الأقْلامِ»، ومنها ما جاء في صَحيحِ البُخاريِّ: «حتَّى جاء سِدْرةَ المُنْتَهى، ودَنا للجبَّارِ ربِّ العِزَّةِ فتَدَلَّى، فكان قابَ قَوسَيْنِ».
وفي الحَديثِ: بَيانُ فَضلِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على الأنْبياءِ والعالَمينَ.
وفيه: بَيانُ فَضْلِ أُمَّةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وبَيانُ رَحمةِ اللهِ تعالَى بها، وتَفْضيلِه لها على سائِرِ الأُمَمِ.
وفيه: فَضلُ ماءِ النِّيلِ والفُراتِ.
وفيه: بَذلُ النَّصيحةِ لمَن يَحتاجُ إليها، وإنْ لم يَحتَجِ النَّاصِحُ إليها، ولم يَطلُبْها المَنصوحُ.