مسند أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه555
مسند احمد
حدثنا حسن يعني ابن موسى، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، وحميد، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على بغلة شهباء، فمر على حائط لبني النجار، فإذا هو بقبر يعذب صاحبه، فحاصت البغلة، فقال: " لولا أن لا تدافنوا، لدعوت الله أن يسمعكم عذاب القبر
أخْبَرَنا القرآنُ الكريمُ والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بكثيرٍ مِن الغَيْبِياتِ، مِثلُ الجنَّةِ ونَعيمِها، وعَذابِ القبرِ والنَّارِ والدَّجَّالِ، ويَجِبُ الإيمانُ بكلِّ هذا مع العملِ بما أمَرَنا به؛ للفوزِ بنَعيمِ اللهِ، والنَّجاةِ مِن عَذابِه.
وفي هذا الحديثِ يَرْوي زَيدُ بنُ ثابتٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان ذاتَ مرَّةٍ في بُستانٍ، وكان يَركَبُ على بغلةٍ له، وكان معه بعض الصحابة رَضيَ اللهُ عنهم، فمالَت البَغلةُ ونفرَتْ به، فكادَتْ تُلقيه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن ظَهرِها مِن شِدَّةِ نُفورِها مِن شَيءٍ خافتْ منه ولم يَعرِفوه، فبيْنما هُم على تلكَ الحالِ مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ظهرَتْ لهم قبورٌ مَعدودةٌ إمَّا أربعةٌ، أو خمسةٌ، أو سِتَّةٌ، فَسَألَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: مَن يَعرِفُ أصحابَ هذه الأقْبُرِ؟ فأجابَ رجلٌ: أنا أعرِفُهم، فسَألَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «مَتى ماتَ هؤلاء؟» أي: أفي الجاهليَّةِ أو بعدَها، وهلْ ماتوا مُشركينَ أو مؤمنينَ؟ فأجابَ الرَّجلُ بأنَّهم ماتُوا على الإشراكِ وفي الجاهليَّةِ، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «إنَّ هذه الأمَّةَ تُبتَلى» أي: تُمتَحَنُ وتُختبَرُ في القبرِ، ثُمَّ تُنعَّمُ أو تُعذَّبُ، فلوْلا أنِّي أخْشى ألَّا تَدفنُوا مَوتاكم، لَدعوْتُ اللهَ أنْ يَجعَلَ في أُذنِكم القُدرةَ على سَماعِ أصواتِ المعذَّبِين في القبرِ الَّذي أسْمعُه مِنَ القبرِ الآنَ، وعليه، فالمعنى: لوْلا الخوفُ والفزع الَّذي سيَقعُ في قُلوبِكم مِن سَماعِ الصُّراخِ ونحوهِ -وهو الَّذي يَترتَّبُ عليه الخوفُ مِن الدَّفنِ-؛ لتَركْتُم مَيَّتَكم غيرَ مَدفونٍ خَشيةً عليه مِن هذا العذابِ.
ثُمَّ التَفَت النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى مَن معه وجَعَلهم في قُبالةِ وَجهِه الشَّريفِ؛ ليَكونَ أسمَعَ وأبلَغَ في الموعظةِ، وأمَرَهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَستعِيذوا باللهِ مِن عَذابِ النَّارِ، فاسْتَجابوا لأمرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وقالوا: «نَعوذُ بِاللهِ مِن عَذابِ النَّارِ»، ثمَّ أمَرَهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنْ يَستعِيذوا بِاللهِ مِن عذابِ القبرِ، فقالوا: «نَعوذُ بِاللهِ مِن عذابِ القبرِ»، وقدَّمَ عَذابَ النَّارِ في الذِّكْرِ مع أنَّ عذابَ القبرِ مُقدَّمٌ في الوجودِ؛ لِكونِه أشدَّ وأبقى وأعظَمَ وأقوى، ثُمَّ أمَرَهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنْ يَستعِيذوا بِاللهِ مِنَ «الفتنِ» جمعُ فِتنةٍ، وهي الامتحانُ، وتُستعمَلُ في المكْرِ والبلاءِ، «ما ظهَرَ منها» كالقتلِ والعذابِ، «وما بطنَ» كالعداوةِ والبَغضاءِ والحسَدِ، فاسْتَجابوا وقالوا: نَعوذُ بِاللهِ مِنَ الفتنِ ما ظهرَ منها وما بطَنَ، ثمَّ أمَرَهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنْ يَسْتعِيذوا بِاللهِ مِن «فتنةِ الدَّجَّالِ» مِن الدَّجلِ، وهو التَّغطيةُ، سُمِّي به؛ لأنَّه يُغطِّي الحَقَّ بباطِلِه، وهو شَخصٌ مِن بَني آدَمَ، يَدَّعي الأُلوهيَّةَ، وظُهورُه مِن العلاماتِ الكُبرى ليَومِ القِيامةِ، يَبتَلي اللهُ به عِبادَه، وأَقْدَره على أشياءَ مِن مَقدوراتِ اللهِ تعالَى: مِن إحياءِ الميِّتِ الَّذي يَقتُلُه، ومِن ظُهورِ زَهرةِ الدُّنيا والخِصْبِ معه، وجَنَّتِه ونارِه، ونَهْرَيْهِ، واتِّباعِ كُنوزِ الأرضِ له، وأمْرِه السَّماءَ أنْ تُمطِرَ فتُمطِرَ، والأرضَ أنْ تُنبِتَ فتُنبِتَ؛ فيَقَعُ كلُّ ذلك بقُدرةِ اللهِ تعالَى ومَشيئتِه، وسُمِّيَ مَسِيحًا؛ لأنَّه مَمْسوحُ العَيْنِ مَطْموسُها، فهو أَعْوَرُ، وقيل غيرُ ذلك.
وخصَّ فِتنةَ الدَّجَّالِ بالذِّكرِ؛ لأنَّها مِن أكبرِ الفتنِ حيثُ يُجرُّ إلى الكفْرِ الْمُفضِي إلى العذابِ الْمُخلَّدِ، فاستجابَ الصَّحابةُ الموجُودونَ وقالوا: نَعوذُ بِاللهِ مِن فتنةِ الدَّجَّالِ.
وفي الحديثِ: ثُبوتُ سَماعِ البهائمِ لِأصواتِ المعذَّبِينَ في القبورِ.
وفيه: الأمرُ بِالاستعاذةِ مِن النَّارِ وعذابِ القبرِ والفتنِ والنَّارِ وفتنةِ الدَّجَّالِ.
وفيه: ثُبوتُ عذابِ القبر.
وفيه: بَيانُ فَضلِ اللهِ العظيمِ؛ فقدْ حَجَب الثَّقلينِ عن سَماعِ ما يَلْقاه المَوتى في قُبورِهم.
وفيه: بَيانُ كَمالِ شَفقةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأُمَّتِه؛ فقدْ تَرَك دُعاءَ ربِّه بأنْ تَسمَعَ الأُمَّةُ عَذابَ القبرِ؛ لئلَّا يَترُكوا التَّدافُنَ.