مسند أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه794
مسند احمد
حدثنا عبد الملك بن عمرو، حدثنا هشام، عن قتادة، عن أنس قال: سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أحفوه بالمسألة، فصعد المنبر ذات يوم فقال: " لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم ". قال أنس: فجعلت أنظر يمينا وشمالا، فإذا كل إنسان لاف (1) رأسه في ثوبه يبكي، قال: وأنشأ رجل كان إذا لاحى، يدعى إلى غير أبيه، فقال: يا رسول الله، من أبي؟ قال: " أبوك حذافة ". - قال: أبو عامر وأحسبه قال: فقال رجل: يا رسول الله، في الجنة أنا (2) أو في النار؟ قال: " في النار " -، قال: ثم أنشأ عمر فقال: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، نعوذ بالله من شر الفتن. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما رأيت في الخير والشر كاليوم قط، إنه صورت الجنة والنار، حتى رأيتهما دون الحائط " (3)
كانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كَثيرًا ما يُذكِّرُ أصحابَه رِضوانُ اللهُ عليهم، ويَعِظُهم بما يَنفَعُهم وبما يُناسِبُ أحوالَهم، وكانَ أيضًا يُحذِّرُهم من كثرةِ السُّؤالِ فيما لا حاجَةَ لهُم فيه.
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ أنسُ بنُ مالكٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خرَجَ حينَ زاغَتِ الشَّمسُ، أي: مالَت عَن وسَطِ السَّماءِ، فصَلَّى الظُّهرَ في أوَّلِ وقتِها، ثُمَّ قامَ على المِنبَرِ، قيلَ: فَعَلَ ذلك لِما بَلَغَه أنَّ قومًا منَ المُنافِقين يَنالون منه ويُعجِّزونه عن بعضِ ما يَسألونَه، فذَكَرَ السَّاعةَ، أي: ما يَتعلَّقُ بها من عَلاماتِها وأشراطِها وما يَحدُثُ قبلَها من أُمورٍ عَظيمةٍ، ثُمَّ لمَّا أنهَى كلامَه عنِ السَّاعةِ قالَ للحاضِرين: مَن أحبَّ أن يَسألَ عن شَيءٍ، فَليَسأل عنه، ثُمَّ أقسَمَ باللهِ أنَّهم لا يَسألونَه عن شَيءٍ إلَّا أخبَرَهم به ما دامَ في مَقامِه هذا على المِنبَرِ وفي هذا الوقتِ، فَأكثرَ النَّاسُ البكاءَ، وكان بُكاؤُهم خوفًا من نُزولِ عَذابٍ لِغَضَبِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، كما كانَ يَنزِلُ على الأُممِ عندَ ردِّهم على أنبيائهم عليهمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، أو أنَّهم بَكَوا خوفًا ممَّا سَمِعوه من أهوالِ يومِ القيامةِ.
فَأكثرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ من قولِه لهمُ: اسألُوني، فقامَ إليه رجلٌ فسألَه: أينَ أكونُ وأُدخَلُ يومَ القيامةِ؟ فقالَ له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: في الَّنارِ، وهذا سؤالٌ أهلَكَ صاحِبَه؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أخبَرَه بذلك وكلامُه وحيٌ، ولم يُذكَرِ اسمُ هذا الرَّجلِ، وقيلَ: كأنَّه أُبهِمَ عَمدًا للسَّترِ عليه.
ثُمَّ قامَ عبدُ اللهِ بنُ حُذافةَ رَضيَ اللهُ عنه، وسألَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وقالَ: مَن أبي يا رسولَ اللهِ؟ وقد كانَ يُطعَنُ في نَسبِه، فقالَ له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أبُوك حُذافةُ، فنَسَبَه إلى أبيه الذي يُعرَفُ به بين الَّناسِ، وهذا السُّؤالُ كانَ يُمكِنُ أن يَتسبَّبَ في فَضيحةٍ للسَّائلِ وأهلِه لو كانَ ابنَ زِنًا، ولذلك جاءَ في روايةِ مُسلمٍ أنَّ أُمَّ عبدِ اللهِ بنِ حُذافةَ لامَتِ ابنَها على هذا السُّؤالِ، وقالت: «ما سَمِعتُ بابْنٍ قطُّ أعَقَّ منك؟ أأمِنتَ أنْ تَكونَ أمُّك قد قارَفَتْ بعضَ ما تُقارِفُ نِساءُ أهلِ الجاهليَّةِ، فتَفضَحَها على أعيُنِ النَّاسِ؟! قالَ عبدُ اللهِ بنُ حُذافةَ: واللهِ لو ألحَقَني بعبدٍ أسوَدَ لَلَحِقتُه»، وهذا الإخبارُ منه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانَ وحيًا؛ فالنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لا يَعلَمُ ما يُسألُ عنه منَ المُغيَّباتِ إلَّا بإعلامِ اللهِ تَعالَى.
ثُمَّ أكثَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ من قولِه: «سَلُوني سَلُوني»، كأنَّه قالَ لهُم: سَلُوني عمَّا شِئتُم فسَوفَ أُجيبُكم عمَّا تَسألونَ عنه، ولكن ليسَ هذا من مَصلحتِكم، وهذا يَدُلُّ على أنَّه لمَّا أكثَرَ عليه النَّاسُ السُّؤالَ غَضِبَ لِتَعنُّتِهم في السَّؤالِ وتَكلُّفِهم ما لا حاجَةَ لهُم به؛ لأنَّ منَ العَبثِ السُّؤالَ الذي لا فائدةَ فيه، ولأنَّهم كانوا يَسألونَه عن بعضِ المُغيَّباتِ، والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لم يُبعَث لذلك، وإنَّما بُعِثَ لبيانِ الشَّرعيَّاتِ منَ العَقائدِ والأحكامِ.
فلمَّا رأى عُمرُ بنُ الخطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه ذلك بَرَكَ على رُكبتَيه، تَأدُّبًا وإكرامًا لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وشَفَقةً على المُسلِمينَ، وإظهارًا للخُشوعِ والتَّذلُّلِ لله للخَلاصِ من غَضَبِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقالَ: «رَضِينا بِاللَّهِ رَبًّا»، أي: رَضينا بتَدبيرِه وقَضائه لنا، واتَّخذَناه دونَ ما سِواه إلَهَنا ومَعبودَنا، ورَضينا بالإسلامِ دينًا من بينِ سائرِ الأديانِ، فدخَلنا فيه راضين مُستسلِمين، ولم نَبتغِ غيرَ الإسلامِ دينًا، ورَضينا بِمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رَسولًا، فرَضينا بجَميعِ ما جاءَ به من عندِ اللهِ تَعالَى، وقبِلَنا ذلك بالتَّسليمِ والانشراحِ؛ فصدَّقناه فيما أخبَرَ، وأطَعناه فيما أمَرَ، واجتنَبنا ما نَهَى عنه وزَجَرَ، وأحبَبناه واتَّبعناه، لمَّا عَلِمَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه غَضَبَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، طَلَبَ منه العَفوَ عنِ النَّاسِ، فلمَّا سَمِعَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عُمرَ رَضيَ اللهُ عنه سَكَتَ، ثُمَّ أقسَمَ باللهِ مالِكِ نفسِه ومُدبِّرِها، أنَّه رأى الجَنَّةَ والنَّارَ نَاحيةَ الحائطِ وهو يُصلِّي، وذلك بأن تَكُونَا رُفِعَتا إليه، أو زُويَ له ما بينهما أو مُثِّلَا له، فلم يَرَ قَطُّ مِثلَ هذا الخيرِ الَّذي هو الجَنَّةُ، وهذا الشَّرِّ الَّذي هو النَّارُ، أو: مَا أبصَرَ شيئًا مِثلَ الطَّاعةِ والمعصيةِ في سَببِ دُخولِ الجَنَّةِ والنَّارِ.
وفي الحديثِ: المُحافَظةُ على الصَّلاةِ في أوَّلِ وقتِها.
وفيه: بيانُ مَغَبَّةِ وخُطورةِ التَّنطُّعِ والاسترسالِ في الأسئلةِ التي لا طائلَ منها.
وفيه: بيانُ مَنقَبةٍ لعُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه.
وفيه: أنَّ المُسلِمَ يُسلِّمُ أمرَه للهِ، وذلك من كمالِ الإيمانِ باللهِ ورسولِه.