لقدْ دَلَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أُمَّتَه على كلِّ خيرٍ يَنفَعُهم في الدُّنيا والآخِرةِ، وبيَّنَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الحَلالَ والحَرامَ في كلِّ شَيءٍ؛ حتَّى يكونَ المُؤمِنُ على بيِّنَةٍ مِن أمْرِه في تَجنُّبِ الحرامِ منَ الأطعِمةِ وغيرِ ذلك، كما يُبيِّنُ هذا الحديثُ؛ حيثُ يقولُ أنسُ بنُ مالكٍ رضِيَ اللهُ عنه: "نَهَى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن الشُّربِ قائمًا، وعن الأكْلِ قائمًا"، قيل: إنَّ النَّهيَ نَهْيُ تَنزيهٍ لا نَهْيُ تَحريمٍ، والأَوْلى للإنسانِ أنْ يأْكُلَ ويَشرَبَ وهو جالسٌ، فإنْ أكَلَ أو شَرِبَ قائمًا فلا بأسَ، ويكونُ الأكْلُ والشُّربُ قائمًا في حالةِ الضَّرورةِ؛ فقد أخرَجَ النَّسائيُّ عن عائِشةَ رضِيَ اللهُ عنها زَوجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّها قالت: "رأَيْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَشرَبُ قائمًا وقاعدًا".
"وعن المُجثَّمةِ"، وهي الحيواناتُ الَّتي تُحبَسُ وتُمنَعُ مِن الحَركةِ، وتُجعَلُ هدفًا وتُرمى بالنَّبلِ، وهذا الفِعلُ يَكثُرُ في الطَّيرِ والأرانبِ وأشباهِ ذلك، ممَّا يَجْثِمُ في الأرضِ، أي: يَلزَمُها ويَلتَصِقُ بها، والمُرادُ: أنَّها مَيتَةٌ لا يَحِلُّ أكْلُها، "والجلَّالةِ"، أي: نَهَى عن أكْلِ لَحمِ الحيواناتِ الجلَّالةِ وشُربِ لَبَنِها، وهي الحَيواناتُ الَّتي تَتغذَّى على الأقذارِ والخَبائثِ، وقد تَنجَّسَ لَحْمُها بسَببِ كونِ غِذائِها نَجسًا، "والشُّربِ مِن فِي السِّقاءِ"، أي: نَهى عن الشُّربِ مِن فَتحةِ السِّقاءِ، وهي القِربةُ المُتَّخذةُ مِن الجِلْدِ المَدبوغِ، قيل: النَّهيُ هنا لثَلاثةِ أوجُهٍ؛ أحدُها: لئلَّا يَرْجِعَ الشَّرابُ مِن فَمِه إلى الإناءِ، والثَّاني: لِئلَّا تَتعلَّقَ رَوائحُ الأفواهِ به، فيُكْرَهَ، والثَّالثُ: للتَّحرُّزِ مِن أنْ يكونَ فيه حَيوانٌ أو حَشرةٌ، فتَدخُلَ في جَوفِ الشَّاربِ.
وفي الحَديثِ: بَيانٌ لبَعضِ الخَبائثِ المَنهيِّ عنها مِن المأكولاتِ والمشروباتِ.
وفيه: حِرْصُ الإسلامِ على الطَّيِّباتِ في كُلِّ شَيءٍ مِن المأكلِ والمَشْربِ.