مسند الزبير بن العوام رضي الله عنه 11
حدثنا سليمان بن داود الهاشمي، أخبرنا عبد الرحمن يعني ابن أبي الزناد، عن هشام، عن عروة، قال: أخبرني أبي الزبير: أنه لما كان يوم أحد أقبلت امرأة تسعى، حتى إذا كادت أن تشرف على القتلى، قال: فكره النبي صلى الله عليه وسلم أن تراهم. فقال: " المرأة المرأة ". قال الزبير: فتوسمت أنها أمي صفية، قال: فخرجت أسعى إليها، فأدركتها قبل أن تنتهي إلى القتلى، قال: فلدمت في صدري، وكانت امرأة جلدة، قالت: إليك لا أرض لك، قال: فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عزم عليك. قال: فوقفت وأخرجت ثوبين معها، فقالت: هذان ثوبان جئت بهما لأخي حمزة، فقد بلغني مقتله فكفنوه فيهما، قال: فجئنا بالثوبين لنكفن فيهما حمزة، فإذا إلى جنبه رجل من الأنصار قتيل، قد فعل به كما فعل بحمزة، قال: فوجدنا غضاضة وحياء أن نكفن حمزة في ثوبين، والأنصاري لا كفن له، فقلنا: لحمزة ثوب، وللأنصاري ثوب، فقدرناهما فكان أحدهما أكبر من الآخر، فأقرعنا بينهما فكفنا كل واحد منهما في الثوب الذي طار له
كانتْ غَزوةُ أُحُدٍ دَرسًا عَظيمًا لِلمُسلِمينَ؛ حيثُ رأوْا عُقوبةَ مُخالَفةِ أوامِرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وذاقوا الهَزيمةَ، مع قَتلِ بَعضٍ مِن أفاضِلِ المُهاجِرينَ والأنصارِ. وفي هذا الحَديثِ يَروي الزُّبَيرُ بنُ العَوَّامِ رَضيَ اللهُ عنه: "أنَّه لَمَّا كان يَومُ أُحُدٍ" في السَّنةِ الثالِثةِ مِنَ الهِجرةِ "أقبَلَتِ امرأةٌ تَمشي مُسرِعةً "، أي: تَسعى حتى إذا كادَتْ تُشرِفَ على القَتلى" واقتَرَبتْ أنْ تَراهم، "فكَرِهَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ تَراهم، فقال: المَرأةَ، المَرأةَ" بمَعنى: أبعِدوا المَرأةَ عنِ القَتلى، وإنَّما حَذَّرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن ذلك خَوفًا مِن أنْ يُصيبَها ما لا يُحمَدُ مِن شِدَّةِ تأثُّرِها بمَناظِرِ القَتلى وَالشُّهداءِ وهُمْ لم يُدفَنوا بَعدُ، قال الزُّبَيرُ: "فتوَسَّمتُ أنَّها أُمِّي صَفيَّةُ" بِنتُ عَبدِ المُطَّلِبِ عَمَّةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأُختُ حَمزةَ رَضيَ اللهُ عنه "فخَرَجتُ أسعَى إليها" مُسرِعًا في المَشيِ لِألحَقَ بها، "فأدرَكتُها قَبلَ أنْ تَنتَهيَ" وتَصِلَ "إلى القَتلى، قال: فلَدَمتْ في صَدري"، أي: ضَرَبتْ صَدري ودَفَعتْني دفعة شَديدةً "وكانتِ امرأةً جَلْدةً" قَويَّةً، "قالت: إليكَ"، أي: ابتَعِدْ عن طَريقي، "لا أرضَ لكَ" وهي كَلِمةٌ تُقالُ لِلزَّجرِ والتَّوبيخِ، ولا يُقصَدُ بها السَّبُّ أوِ الدُّعاءُ، وذلك أنَّها عَلِمتْ أنَّ حَمزةَ بنَ عَبدِ المُطَّلِبِ رَضيَ اللهُ عنه قد قُتِلَ في المَعرَكةِ، "فقُلتُ: إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَزَمَ عليكِ"، أي: أكَّدَ الأمْرَ عليكِ بعَدَمِ الذَّهابِ إلى القَتلى "فوَقَفتْ"! وامتَثَلتْ لِأمْرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "وأخرَجَتْ ثَوبَيْنِ معها، فقالت: هذانِ ثَوبانِ جِئتُ بهما لِأخي حَمزةَ" لِيُكفَّنَ فيهما؛ "فقد بَلَغَني مَقتَلُه، فكَفِّنوه فيهما، قال: فجِئْنا بالثَّوبَيْنِ لِنُكفِّنَ فيهما حَمزةَ، فإذا إلى جَنبِه رَجُلٌ مِنَ الأنصارِ قَتيلٌ، قد فُعِلَ به كما فُعِلَ بحَمزةَ" مِنَ التَّمثيلِ بجُثَّتِه، "فوَجَدْنا غَضاضةً وحياءً أنْ نُكفِّنَ حَمزةَ في ثَوبَيْنِ، والأنصاريُّ لا كَفَنَ له، فقُلْنا: لِحَمزةَ ثَوبٌ، ولِلأنصاريِّ ثَوبٌ" نُكفِّنُ كُلَّ واحِدٍ منهما في الثَّوبِ المُناسِبِ له، "فقَدَّرناهما فكان أحَدُهما"، أي: الثَّوبَيْنِ، "أكبَرَ مِنَ الآخَرِ، فأقرَعْنا بَينَهما، فكَفَّنَّا كُلَّ واحِدٍ منهما في الثَّوبِ الذي طارَ له" في القُرعةِ؛ وقد فَعَلوا ذلك حتى لا يُؤْثِروا أحَدَهما بالثَّوبِ الأفضَلِ فيَحزَنَ أهلُه مِنَ المُهاجِرينَ أوِ الأنصارِ، ولكِنَّ القُرعةَ تُرضي جَميعَ الأطرافِ. وفي الحَديثِ: بَيانُ بَعضِ ما وَقَعَ في غَزوةِ أُحُدٍ مِنَ الهَزيمةِ والتَّمثيلِ بجُثَثِ بَعضِ قَتلى المُسلِمينَ. وفيه: سُرعةُ استِجابةِ الصحابةِ لأوامرِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ. وفيه: الحَضُّ على التَّكافُلِ بَينَ المُسلِمينَ حتى يَتعَدَّى مَنفَعةَ التَّكافُلِ إلى الأمواتِ.