مسند جابر بن عبد الله رضي الله عنه 776

مسند احمد

مسند جابر بن عبد الله رضي الله عنه 776

 حدثنا عبد الله بن الوليد يعني العدني، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام أفضل؟ قال: «أن يسلم المسلمون من لسانك، ويدك» . وحدثناه وكيع، عن الأعمش

كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُرشِدُ أُمَّتَه إلى مَعالي الأُمورِ مِن الأقوالِ والأفعالِ، وكان يُجِيبُ السَّائلين بحَسَبِ حاجَتِهم وما يَعلَمُه خيرًا لهم، وقد ورَدَ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كثيرٌ مِن الأقوالِ والأفعالِ الموصوفةِ بأنَّها الأفضلُ والأحسَنُ والخيرُ

 وقد جمَعَ هذا الحديثُ جُملةً مِن هذه الفَضائلِ؛ فقدْ سأَلَ رجُلٌ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال: "يا رسولَ اللهِ، ما الإسلامُ؟ قال: إطعامُ الطَّعامِ"، أي: للمُحتاجِ، ويَدخُلُ فيه الضَّيفُ، وتَزدادُ فَضيلةُ إطعامِ الطَّعامِ وبَذْلِه في الوقتِ الَّذي تَزدادُ الحاجةُ له، "ولِينُ الكلامِ"، أي: الرِّفقُ مع الآخرينَ، وإذا كان الأمرُ في الكلامِ فمِن الأَولى أنْ يكونَ أيضًا في الأفعالِ، "قال: يا رسولَ اللهِ، ما الإيمانُ؟ قال: السَّماحةُ"، وهي الجُودُ والسَّخاءُ، وتَتحقَّقُ بالزُّهدِ في الدُّنيا، والإحسانِ والكرَمِ للفُقراءِ، "والصَّبرُ"، أي: على الطَّاعةِ، وعن المعصيةِ، وعندَ المُصيبةِ. وقيل: الصَّبرُ مِن الإيمانِ بمنزلةِ الرَّأسِ مِن الجسَدِ، "قال: يا رسولَ اللهِ، فأيُّ الإسلامِ أفضَلُ؟" أي: أيُّ خِصالِ الإسلامِ أفضَلُ مِن غيرِها؟ قال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "مَن سَلِمَ المُسلِمون مِن لِسانِه ويَدِه"، أي: إنَّ المُسلِمَ الكامِلَ الجامعَ لخِصالِ الإسلامِ: هو مَن لم يُؤْذِ مُسلِمًا بقولٍ ولا فِعلٍ، وخصَّ اللِّسانَ واليدَ؛ لكَثرةِ أخطائِهما وأضرارِهما؛ فإنَّ مُعظَمَ الشُّرورِ تَصدُرُ عنهما؛ فاللِّسانُ يكذِبُ، ويَغتابُ، ويسُبُّ، ويَشهَدُ بالزُّورِ، واليدُ تَضرِبُ، وتقْتُلُ، وتَسرِقُ، إلى غيرِ ذلك، وقدَّمَ اللِّسانَ؛ لأنَّ الإيذاءَ به أكثرُ وأسهَلُ، وأشدُّ نِكايةً، ويعُمُّ الأحياءَ والأمواتَ جميعًا، "قال: يا رسولَ اللهِ، أيُّ المُؤمِنين أكمَلُ إيمانًا؟ قال: أحسَنُهم خُلقًا"، أي: المُؤمنُ الحقُّ والَّذي تَحقَّقَت له صِفَةُ كَمالِ الإيمانِ، وظهَرَتْ عليه علاماتُه: مَن كانت أخلاقُه حَسنةً أكثَرَ مِن غَيرِه، "قال: يا رسولَ اللهِ، أيُّ القتْلِ أشرَفُ؟"، أي: أيُّ أنواعِ القَتْلِ أشرَفُ وأعلى درَجةً؟ "قال: مَن أُرِيقَ دَمُه وعُقِرَ جَوادُه"، أي: أفضَلُ أنواع ِالقتْلِ هو القتْلُ في الجِهادِ في سَبيلِ اللهِ لمَن حارَب بيَدِه، فسالَ دَمُه وقُتِلَ فرَسُه؛ ففَقَدَ النَّفسَ والدَّابَّةَ الَّتي كانت تَحمِلُه، فلم يَبْقَ شَيءٌ ممَّا خرَجَ به، والعَقرُ: القتْلُ أو قطْعُ الأرجُلِ، وفي هذا إشارةٌ إلى الإقدامِ في القِتالِ حتَّى الشَّهادةِ أو النَّصرِ، "قال: يا رسولَ اللهِ، فأيُّ الجِهادِ أفضَلُ؟" أي: أيُّ أنواعِ الجِهادِ أفضلُ؟ قال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "الَّذين جاهَدوا بأموالِهم وأنفُسِهم في سَبيلِ اللهِ"، أي: أفضَلُ الجِهادِ جِهادُ مَن جاهَدَ المُشرِكين وخرَجَ بمالِه ونفْسِه، فأنفَقَ مالَه في سَبيلِ اللهِ وحارَبَ بيَدِه، وهذا أفضَلُ مِن غيرِه ممَّن جاهَدَ بمالِه فقط أو بنفْسِه فقط، ولا تَنافِيَ بيْنه وبيْن الحديثِ الذي أخرجَه أحمدُ وغيره، وفيه: "ألَا وإنَّ أفضَلَ الجِهادِ كَلمةُ حَقٍّ عندَ سُلطانٍ جائرٍ"؛ لأنَّ الأفضليَّةَ نِسبيَّةٌ، أي: بالنِّسبةِ للكلامِ؛ فإنَّ المُؤمِنَ يُجاهِدُ بلِسانِه كما يُجاهِدُ بيَدِه، فتكونُ كَلمةُ الحقِّ عندَ سُلطانٍ جائرٍ أفضَلَ جِهادِ المُؤمنِ المُتعلِّقِ بلِسانِه، ويَحتمِلُ أنْ تكونَ (مِنْ) مُقدَّرةً، أي: مِن أفضَلِ الجِهادِ، والحاصلُ: أنَّ جِهادَ المُؤمنِ للمُشرِكين بنَفْسِه ومالِه أفضَلُ أنواعِ الجِهادِ على الإطلاقِ
"قال: يا رسولَ اللهِ، فأيُّ الصَّدقةِ أفضَلُ؟ قال: جُهدُ المُقِلِّ" والجُهدُ: الوُسْعُ والطَّاقةُ، أو المَشقَّةُ والغايةُ، والمُقِلُّ: الفقيرُ الَّذي معَه شَيءٌ قليلٌ مِن المالِ، أي: إنَّ أفضَلَ الصَّدقةِ هو الَّذي يتَصدَّقُ بها الفقيرُ قليلُ المالِ على قَدْرِ طاقتِه ووُسْعِه، مع مَشقَّةِ ذلك عليه، وإنَّما كانت صَدَقةُ المُقِلِّ أفضَلَ مِن صَدَقةِ الغَنيِّ؛ لأنَّ الفقيرَ يَتصدَّقُ بما هو مُحتاجٌ إليه، بخِلافِ الغَنيِّ؛ فإنَّه يَتَصدَّقُ بفُضولِ مالِه، ويُجمَعُ بيْنَه وبيْن حديثِ البُخاريِّ: "خيرُ الصَّدَقةِ ما كان عن ظَهْرِ غِنًى"، بأنَّ هذا الحديثَ مَحمولٌ على قَويِّ الإيمانِ الَّذي يَصبِرُ على الفاقةِ، ويَكتَفي بأقلِّ الكِفايةِ، والحديثَ الثَّاني على ضَعيفِ الإيمانِ، ويَحتمِلُ أنْ يكونَ المُرادُ بالغِنَى غِنَى القَلبِ الَّذي يَصبِرُ صاحبُه على الجُوعِ والشِّدَّةِ، وهو المُرادُ بالمُقِلِّ في الحديثِ الَّذي هنا؛ فيكونُ المعنى: إنَّ تَصدُّقَ الفَقيرِ الغَنِيِّ القَلبِ- ولو كان قليلًا- أفضَلُ مِن تَصدُّقِ الغَنيِّ بكَثيرٍ مِن مالِه، "قال: يا رسولَ اللهِ، فأيُّ الصَّلاةِ أفضَلُ؟" أي: فأيُّ أمْرٍ مِن أُمورِ الصَّلاةِ وأعمالِها أَفضلُ في الثَّوابِ والأجْرِ؟ قال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "طُولُ القُنوتِ"، أي: طُولُ القِيامِ والوُقوفِ بيْن يدَيِ اللهِ بالقِراءةِ والدُّعاءِ، "قال: يا رسولَ اللهِ، فأيُّ الهِجرةِ أفضَلُ؟" أي: أيُّ أنواعِ الهجرةِ أفضلُ؟ والهِجرةُ في الأصْلِ مأْخوذةٌ مِن الهَجْرِ الَّذي ضِدُّ الوَصْلِ، ثمَّ غلَبَتْ على الخُروجِ مِن أرضٍ إلى أرضٍ، فإنْ كان خرَجَ للهِ فهي الهِجرةُ الشَّرعيَّةُ، وتُطلَقُ أيضًا على تَرْكِ المُحرَّماتِ، وهي المُرادةُ هنا، كما أشار إليها بقولِه: "مَن هجَرَ السُّوءَ"، أي: إنَّ تَرْكَ الشَّخصِ المُسلِمِ الأمْرَ السَّيِّئَ الَّذي حرَّمَه اللهُ عزَّ وجلَّ هو أفضَلُ أنواعِ الهِجرةِ، مع الفِرارِ بالدِّينِ مِن الفِتَنِ
وفي الحديثِ: كَثرةُ الأعمالِ الفاضلةِ وتنوُّعُها بيْن الأقوالِ والأفعالِ، وعلى كلِّ مُسلِمٍ أنْ يأخُذَ بما يُناسِبُه وبما في استطاعتِه
وفيه: أنَّ طُولَ القيامِ للهِ بالقِراءةِ والدُّعاءِ أفضَلُ مِن كَثرةِ الرُّكوعِ والسُّجودِ
وفيه: فَضلُ الهِجرةِ في سَبيلِ اللهِ؛ بهَجْرِ ما نَهى عنه، وإتيانِ ما أمَرَ به
وفيه: فَضلُ الجِهادِ بالنَّفْسِ والمالِ