مسند جابر بن عبد الله رضي الله عنه 797
مسند احمد
حدثنا كثير بن هشام، حدثنا هشام، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في نخل فصلى بأصحابه صلاة الظهر، قال: فهم بهم المشركون، قال: فقالوا: «دعوهم فإن لهم صلاة بعد هذه هي أحب إليهم من أبنائهم» ، قال: فنزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه فصفهم صفين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أيديهم فكبروا جميعا، ثم سجد الذين يلون رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآخرون قيام فلما رفع الذين سجدوا رءوسهم، سجد الآخرون فلما قاموا في الركعة الثانية، تأخر الذين يلون الصف الأول [ص:264]، فقام أهل الصف الثاني، وتقدم الآخرون إلى الصف الأول، فركعوا جميعا، فلما رفعوا رءوسهم من الركوع، سجد الذين يلون النبي صلى الله عليه وسلم، والآخرون قيام فلما رفعوا رءوسهم سجد الآخرون
الصلاةُ أهمُّ رُكنٍ في أركانِ الإسلامِ بَعدَ الشهادتَينِ، وهي قُرَّةُ عَينِ المؤمنينَ وأحبُّ إليهم مِن أولادِهم، وقدْ شُرِعَت صَلاةُ الخَوفِ حتَّى يتمكَّنَ المُسلِمونَ مِن أداءِ فَرْضِ اللهِ دُونِ تَعريضِ أنفُسِهم للخَطرِ في أثْناءِ قِتالِهم لأعْداءِ اللهِ، وقد ورَدَت صَلاةُ الخَوفِ على عدَّةِ هَيْئاتٍ
وفي هذا الحَديثِ بَيانٌ لإحْدى تلك الهَيْئاتِ، حيثُ يَحْكي جابِرُ بنُ عَبدِ اللهِ رضِيَ اللهُ عنهما: أنَّهم خَرَجوا إلى الغَزوِ معَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لقَومٍ من جُهَيْنةَ، وهي قَبيلةٌ عَربِيَّةٌ قَديمةٌ، وكانت تَسكُنُ في سَهلِ تِهامةَ المُمتَدِّ منَ اليَمنِ إلى قُربِ مَكَّةَ المُكرَّمةِ، فقاتَلوهم قِتالًا شَديدًا، ولَمَّا حضَرَت صَلاةُ الظُّهرِ، والمُشرِكونَ في مُقابَلتِهم، ورأى المُشرِكونَ طَريقةَ صَلاةِ المُسلِمينَ من رُكوعٍ وسُجودٍ، وهذا يُناسِبُ الهُجومَ عليهم وهم في غَفلةٍ، فقال المُشرِكونَ: «لو مِلْنا عليهم مَيْلةً» فعَزَموا في أنفُسِهم أنَّه لو تَحينُ للمُسلِمينَ صَلاةٌ أُخْرى لهَجَموا عليهم فيها، وقولُه: «لاقْتَطَعْناهم» إشارةٌ إلى أنَّها فُرصةٌ عَظيمةٌ للنَّيْلِ من جَيشِ المُسلِمينَ وخَسارتِه للمَعرَكةِ
فأخبَرَ جِبريلُ عليه السَّلامُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بما يَعزِمُ عليه المُشرِكونَ، وأنَّهم يَتَحيَّنونَ ويَنتظِرونَ الصلاةَ التي تَلي الظُّهرَ -وهي صَلاةُ العَصرِ- لأهميَّتِها للمُسلِمينَ، قائلينَ: «إنَّه ستَأْتيهم صَلاةٌ هي أحبُّ إليهم منَ الأولادِ»، وهذا إشعارٌ بأهميَّةِ صَلاةِ العَصرِ عندَ المُسلِمينَ، وما كان عِندَهم من حِرصٍ على أدائِها في أوَّلِ وَقتِها
فلمَّا حضَرَت صَلاةُ العَصرِ، واستَعَدَّ المُسلِمونَ للصلاةِ، وكان المُشرِكونَ في جِهةِ قِبْلةِ المُسلِمينَ، صفَّ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الجَيشَ خَلفَه صَفَّينِ، ثم كبَّرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والجيشُ جَميعًا تَكبيرةَ الإحْرامِ، وفي الرُّكوعِ نزَلَ إليه الجيشُ جَميعًا، فلمَّا سجَدَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الركعةِ الأُولى، سجَدَ الصفُّ الأولُ، وهو الذي يَلي النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، معَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وظلَّ الصفُّ الثاني يَحرُسُ المُسلمينَ الساجِدينَ منَ المُشرِكينَ، فلمَّا قامَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ للركعةِ الثانيةِ للصلاةِ؛ تَقدَّمَ الصفُّ الثاني مَوضِعَ الصفِّ الأولِ، وتأخَّرَ مَن كان في الصفِّ الأولِ إلى مَوضِعِ الصفِّ الثاني، وأدَّى النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بهم جَميعًا التكبيرَ والركوعَ، فلمَّا نزَلَ للسجودِ نزَلَ معَه مَن لم يَسجُدْ في الركعةِ الأُولى، وظلَّ مَن سجَدَ معَه في الركعةِ الأُولى واقِفًا يَحرُسُ الساجِدينَ، ثم جلَسَ الجَميعُ للتشهُّدِ والتَّسليمِ بعدَ أنْ سلَّمَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. ومِن الحِكمةِ في التقدُّمِ والتأخُّرِ حيازةُ فَضيلةِ المَعيَّةِ في الركعةِ الثانيةِ، جَبرًا لِمَا فاتَهم منَ المَعيَّةِ في الركعةِ الأُولى
ثم قال جابرٌ رضِيَ اللهُ عنه: «كما يُصلِّي أُمَراؤُكم هؤلاء»، وفي رِوايةِ مُسلمٍ: «كما يَصنَعُ حَرَسُكم هؤلاء بأُمَرائِهم»، يَعني: يَحرُسونَهم، ويَقِفونَ على رُؤوسِهم حالَ سُجودِ أُمَرائِهم
وقد ورَدَ في كَيفيَّةِ صَلاةِ الخَوفِ صِفاتٌ كَثيرةٌ، وهذه إحْدى الرِّواياتُ عنِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فيها، وقد صَلَّاها في أيَّامٍ مُختلِفةٍ بأشكالٍ مُتبايِنةٍ يَتحَرَّى فيها ما هو الأحوَطُ للصَّلاةِ، والأبلَغُ للحِراسةِ؛ فهي على اختِلافِ صُوَرِها متَّفِقةُ المَعنى
وفي الحَديثِ: عَلَمٌ من أعْلامِ نُبوَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، حيثُ أُخبِر وأخبَرَ بما يُضمِرُه المشركونَ للمُسلِمينَ
وفيه: بَيانُ أهميَّةِ الصَّلاةِ، حتَّى أنَّها لا تُترَكُ في أوقاتِ الشِّدَّةِ والخَوفِ، حتَّى والمُسلِمونَ يُقاتِلونَ العَدوَّ