مسند عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، عن النبي صلى الله عليه وسلم 591

مسند عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، عن النبي صلى الله عليه وسلم 591

حدثنا عفان، حدثنا عبد الصمد بن حسان، حدثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رأيت ربي تبارك وتعالى " (1)

 قَوْلُهُ: "رَأَيْتُ رَبِّي": فِي "الْمَجْمَعِ": رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ

وَالْمُتَبَادَرُ مِنْهُ رُؤْيَةُ الْبَصَرِ يَقَظَةً، وَلِذَلِكَ اسْتَدَلَّ بِهِ أَحْمَدُ، وَرَدَّ بِهِ قَوْلَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - حِينَ قِيلَ لَهُ: "إِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ، فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ، فَبِأَيِّ شَيْءٍ يُدْفَعُ قَوْلُهَا؟ قَالَ: بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رَأَيْتُ رَبِّي"، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْبَرُ مِنْ قَوْلِهَا

قُلْتُ: وَلَعَلَّ مَنْ يُنْكِرُ الرُّؤْيَةَ يَحْمِلُ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى الرُّؤْيَةِ بِالْفُؤَادِ، أَوْ عَلَى الرُّؤْيَّةِ فِي الْمَنَامِ، وَيُؤَيِّدُ الثَّانِيَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتَانِي اللَّيْلَةَ رَبِّي - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ - قَالَ: أَحْسَبُهُ قَالَ: فِي الْمَنَامِ - ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! هَلْ تَدْرِي فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟" الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَسَيَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَدِيثُ اخْتِصَارًا مِنْهُ، وَكَانَ تِلْكَ رُؤْيَةَ مَنَامٍ كَمَا يُفِيدُهُ النَّظَرُ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ، بَلْ قَدْ جَاءَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ، فَفِيهِ أَنَّهُ قَالَ: "إِنِّي نَعَسْتُ ، فَاسْتَثْقَلْتُ نَوْمًا، فَرَأَيْتُ رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةً، فَقَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟ " الْحَدِيثُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ

ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِالرُّؤْيَةِ; كَصَاحِبِ "التَّحْرِيرِ" شَارِحُ مُسْلِمٍ، وَالنَّوَوِيُّ قَدْ فَاتَهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ، وَإِنَّمَا اسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَوْقُوفِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ: أَنَّهُ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ، قَالُوا: وَالْمَوْقُوفُ فِي مِثْلِهِ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ، وَكَذَا عِيَاضٌ وَالْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ قَدْ فَاتَهُمَا هَذَا الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ ظَاهِرًا، نَعَمْ فِي رَفْعِهِ نَظَرٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْمَشْهُورُ مِنْهُ الْمَوْقُوفُ، وَمِثْلُ هَذَا يُضْعِفُ الرَّفْعَ عِنْدَ قَوْمٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: قَدْ جَاءَتْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْبَارٌ مُطْلَقَةٌ، وَأُخْرَى مُقَيَّدَةٌ، فَيَجِبُ حَمْلُ مُطْلَقِهَا عَلَى مُقَيَّدِهَا، فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: "أَتَعْجَبُونَ أَنْ تَكُونَ الْخَلَّةُ لِإِبْرَاهِيمَ، وَالْكَلَامَ لِمُوسَى، وَالرُّؤْيَةَ لِمُحَمَّدٍ"، وَمَا أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَرْسَلَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ: هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ; فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ: أَنْ نَعَمْ

قُلْتُ: وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ، قُلْتُ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الْأَنْعَامِ: 103]؟ قَالَ: وَيْحَكَ، ذَاكَ إِذَا تَجَلَّى بِنُورِهِ الَّذِي هُوَ نُورُهُ، وَقَدْ رَأَى رَبَّهُ مَرَّتَيْنِ

وَكَذَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [النَّجْمِ: 13]، أَنَّهُ قَالَ: قَدْ رَآهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

وَمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي "الْأَوْسَطِ" عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَظَرَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رَبِّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - ، قَالَ عِكْرِمَةُ: فَقُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: نَظَرَ مُحَمَّدٌ; قَالَ: نَعَمْ، جَعَلَ الْكَلَامَ لِمُوسَى، وَالْخُلَّةَ لِإِبْرَاهِيمَ، وَالنَّظَرَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

فِي "الْمَجْمَعِ": فِيهِ حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، ضَعَّفَهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقِيلَ: ثِقَةٌ.

قَالَ الْحَافِظُ: وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النَّجْمِ: 11]

قَالَ: رَأَى رَبَّهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: رَآهُ بِقَلْبِهِ

قُلْتُ: وَلِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النَّجْمِ:11]، قَالَ: رَآهُ بِقَلْبِهِ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ

قَالَ الْحَافِظُ: وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمْ يَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَيْنَيْهِ، إِنَّمَا رَآهُ بِقَلْبِهِ

وَعَلَى هَذَا فَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ إِثْبَاتِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَنَفْيِ عَائِشَةَ بِأَنْ يُحْمَلَ نَفْيُهَا عَلَى رُؤْيَةِ الْبَصَرِ، وَإِثْبَاتُهُ عَلَى رُؤْيَةِ الْقَلْبِ، وَمَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ إِلَى تَرْجِيحِ إِثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ بِالْبَصَرِ، وَحَمَلَ مَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى أَنَّ الرُّؤْيَةَ وَقَعَتْ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً بِعَيْنِهِ، وَمَرَّةً بِقَلْبِهِ

قُلْتُ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ مَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِنْ  جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا كَمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً بِبَصَرِهِ، وَمَرَّةٍ بِفُؤَادِهِ.

فِي "الْمَجْمَعِ": رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، مَا عَدَا وَاحِدًا وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ، إِلَّا أَنَّهُ يَرُدُّهُ مَا تَقَدَّمَ عَنْهُ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ: رَأَى رَبَّهُ مَرَّتَيْنِ بِفُؤَادِهِ

وَالْجُمْلَةُ: فَإِثْبَاتُ الرُّؤْيَةِ بِالْعَيْنِ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا يَخْلُو عَنْ إِشْكَالٍ

وَأَمَّا قَوْلُ أَحْمَدَ، فَقَدْ أَنْكَرَ صَاحِبُ "الْهَدْيِ " عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّهُ قَالَ بِالرُّؤْيَةِ بِالْعَيْنِ، وَقَالَ: إِنَّهُ مَرَّةً قَالَ: إِنَّهُ رَأَى مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ، وَقَالَ مَرَّةً: رَآهُ بِفُؤَادِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ قَدْ جَاءَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا: أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ؟!- بِتَشْدِيدِ النُّونِ - عَلَى لَفْظِ الْإِنْكَارِ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَعَنْ عَائِشَةَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ; فَقَالَ: "لَا، إِنَّمَا رَأَيْتُ جِبْرِيلَ " رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، فَالْقَوْلُ بِالرُّؤْيَةِ بِالْعَيْنِ مُشْكِلٌ

وَلِذَلِكَ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ الْوَقْفُ; إِذْ لَيْسَ فِي الْبَابِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ، وَغَايَةُ مَا اسْتُدِلَّ بِهِ لِلطَّائِفَتَيْنِ ظَوَاهِرُ مُتَعَارِضَةٌ قَابِلَةٌ لِلتَّأْوِيلِ، وَلَيْسَتِ الْمَسْأَلَةُ مِنَ الْعَمَلِيَّاتِ

قُلْتُ: وَالَّذِي يَتَّفِقُ عَلَيْهِ غَالِبُ الْآثَارِ إِثْبَاتُ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ، وَنَفْيُ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِرُؤْيَةِ الْفُؤَادِ مُجَرَّدَ حُصُولِ الْعِلْمِ;  لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَالِمًا بِاللَّهِ عَلَى الدَّوَامِ، بَلْ مُرَادُ مَنْ أَثْبَتَ لَهُ أَنَّهُ رَآهُ بِالْقَلْبِ: أَنَّ الرُّؤْيَةَ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ خُلِقَتْ فِي قَلْبِهِ كَمَا تُخْلَقُ الرُّؤْيَةُ بِالْعَيْنِ لِغَيْرِهِ، وَالرُّؤْيَةُ لَا يُشْتَرَطُ لَهَا شَيْءٌ مَخْصُوصٌ عَقْلًا، وَإِنْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِخَلْقِهَا فِي الْعَيْنِ، انْتَهَى، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ