مسند عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، عن النبي صلى الله عليه وسلم 671
حدثنا سليمان بن داود أبو داود، قال: أخبرنا شريك، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رجلا قال: يا رسول الله، الحج كل عام؟ فقال: " بل حجة على كل إنسان، ولو قلت: نعم، كل عام، لكان كل عام " (2)
أمَر الشَّرعُ المُطهَّرُ بالوُقوفِ عندَ توجيهاتِ اللهِ ورَسولِهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكَرِهَ كثْرَةَ الأسئلةِ التي قد يكونُ في جوابُها حَرَجٌ للأُمَّةِ وتَشْديدٌ عليها، كما حَدَثَ مع الأُمَمِ السابقةِ
وفي هذا الحَديثِ يقولُ أبو أُمامَةَ الباهِليُّ رضِي اللهُ عنه: "قامَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الناسِ"، أي: قامَ فيهم خَطيبًا، "فقال: كُتِبَ عليكم الحَجُّ"، أي: فَرَضَ اللهُ عليكم الحجَّ بِقَولِهِ تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، "فقامَ رَجُلٌ من الأعْرابِ"، والأعْرابيُّ: ساكِنُ الصَّحْراءِ من العَرَبِ، "فقال: أَفِي كلِّ عامٍ؟"، أي: هل فرَضه اللهُ علينا في كلِّ عامٍ؟ قياسًا على الزَّكاةِ والصِّيامِ، "فغَلِقَ كلامُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأسْكَتَ واسْتَغْضَبَ"، أي: امْتنعَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن الكلامِ، وسكَتَ غضبًا من سؤالِ الأعْرابيِّ؛ لِمَا يُسبِّبُه من تَشْديدِ على الأُمَّةِ في هذا الرُّكْنِ، "فمَكَثَ طويلًا"، أي: طالَ سُكوتُهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "ثم تكَلَّم فقال: مَنِ السائِلُ؟ فقال الأعْرابيُّ: أنا ذا"، أي: أنا هذا الذي سَأَلَ السؤالَ، "فقال: وَيْحَكَ!" وهي كلمةُ ترحُّمٍ وتوجُّعٍ تُقال لِمَن وقَعَ في هَلَكَةٍ لا يستحِقُّها، "ماذا يُؤَمِّنُك أنْ أقولَ: نعم؟"، أي: ما الذي يَضْمنُ لك أنَّني لنْ أقولَ: نعمْ؟ "ولو قُلْتُ: نعمْ، لوَجَبَتْ"، أي: لو أجَبْتُك بقولِ: نعَمْ لأصبَحَ الأمرُ فَرْضًا واجبًا لازمًا أن يَحُجَّ المسلِمُ كلَّ عامٍ، "ولو وَجَبَتْ لكَفَرْتُم" يعني: بتَرْكِ ما فَرَضَ اللهُ عليكم، وإطلاقُ الكُفْرِ إمَّا على مَنْ جَحَدَ الوُجوبَ؛ فهو على ظاهِرِهِ، وإمَّا على مَنْ تَرَكَ مع الإقْرارِ، فهو على سَبيلِ الزَّجْرِ والتَّغْليظِ. قالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "أَلَا إنَّه إنَّما أهْلَكَ الذين قبلَكم أَئِمَّةُ الحَرَجِ"، أي: من أسْبابِ هَلَكَةِ الأُمَمِ قَبْلنا أنَّهم كان فيهم أُناسٌ يُكْثِرون الأسئلةَ فيما لا يُفيدُ ممَّا يتَرتَّب عليه فرْضُ أمورٍ شاقَّةٍ وصَعبةٍ عليهم، فصاروا أئِمَّةً غيْرَ مَسْبوقين في إحْراجِ الأئِمَّةِ كلِّها
ثم قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "واللهِ لو أنِّي أحْلَلْتُ لكم جميعَ ما في الأرضِ، وحَرَّمْتُ عليكم منها مَوْضِعَ خُفِّ"، أي: قدْرَ مِساحةِ خُفِّ الجَمَلِ أو قدْرَ مِساحَةِ خُفٍّ يَلْبَسُهُ الإنسانُ في قَدَمِهِ "لوقعْتُم فيه"؛ وذلك لأنَّ الممنوعَ مرغوبٌ، والشَّيْطانُ يُوسْوِسُ للإيقاعِ في المحظورِ، وقد أقْسَمَ النَّبيُّ على ذلك لعِلْمِهِ بشِدَّةِ وَسْوَسَةِ الشَّيْطانِ، قال أبو أُمامَةَ رضِي اللهُ عنه: "فأَنْزَلَ اللهُ تعالى عندَ ذلك"، أي: كانت هذه القِصَّةُ سببًا في نُزولِ قوْلِهِ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [المائدة: 101]، فنَهى اللهُ عزَّ وجلَّ عن كثْرَةِ السؤالِ في غيرِ حاجةٍ أو الذي قد يكونُ سببًا في التَّشْديدِ على المُسْلِمين
وفي الحديثِ: أنَّ سُكوتَ الشَّرْعِ عن أشْياءَ، إنَّما هو رحْمةٌ من اللهِ بنا، ورفْعٌ للحَرَجِ وليس نِسْيانًا أو نقصًا